المكتب البيضاوي في البيت الأبيض .. حجرة مثقلة

بين جدرانه صدرت أوامر إلقاء قنابل نووية وأُجريت مكالمات مع القمر في معمل مهجور تم تحويله إلى ستوديو للتصوير السينمائي في ضاحية إيفري، جنوب باريس، أعاد المخرج الفرنسي كريستيان كاريون بناء نسخة مطابقة للمكتب البيضاوي الموجود في البيت الأبيض، مقر إقامة وعمل رؤساء الولايات المتحدة الأميركية.


وتم في هذا الديكور تصوير مشاهد كانت قد جمعت بين الرئيسين السابقين رونالد ريغان وفرانسوا ميتران، في لقاء جرى في ثمانيات القرن الماضي. وقتها طار ميتران من باريس مع مساعديه الأمنيين للقاء نظيره في واشنطن للتداول في قضية وصفت بأنها واحدة من أغرب قضايا العمليات السرية، آنذاك. إنها تتعلق بعميل المخابرات السوفياتية فلاديمير فيتروف الشهير بلقب «فيرويل»، الجاسوس الذي كان قد عرض خدماته على الأجهزة الأمنية في الغرب.

وبفضل المعلومات التي نقلها «فيرويل» الى الفرنسيين، قدم هؤلاء الى الأميركيين الهيكلية الكاملة لعمل جهاز المخابرات السوفياتي وتم كشف 70 جاسوساً سوفياتياً.

يعيد الفيلم الجديد للمخرج كاريون الجاسوس «فيرويل» الى الشاشة. وهو قد اختار لإداء دور فيرويل زميله المخرج الصربي المعروف أمير كوستاريتسا. كما اختار قاعات في فندق كريون الباريسي الفخم لتصوير المشاهد التي يفترض أنها حدثت في قصر الأليزيه.

ولاعطاء نكهة حقيقية على المشاهد التي تجري في الاتحاد السوفياتي السابق، طلب مصمم الديكور إحضار أثاث وكتب وصحف قديمة وحاجيات منزلية من هناك. لكن الأمر الأكثر إثارة يبقى بناء نسخة مطابقة للأصل من المكتب البيضوي، هذه الحجرة المثقلة بالتاريخ والحوادث والصرخات والهمسات والأسرار.

وليس من المبالغة في شيء القول إنه المكتب الذي يدار منه العالم، فمن بين جدرانه صدرت أوامر إلقاء قنابل نووية، وأُجريت مكالمات مع القمر، وباختصار: هو المكان الذي يصنع فيه التاريخ. أما إذا أردنا مزيدا من التفاصيل، فلا بد من أن نضيف: وفيه تتفجر الفضائح والأزمات العالمية. إنه «مسرح الأخطاء المأساوية والجرائم القصوى والمهازل المنحطة».

هذا الوصف لم يقله واحد من أعداء الولايات المتحدة الأميركية بل ورد في كتاب بعنوان «داخل المكتب البيضوي» للمؤلف الأميركي وليام دويل. والحقيقة أن المرء لا يستطيع أن يتناول هذا المكتب بالحديث من دون أن يقع في فخ الإثارة. ففي هذه الغرفة، المستطيلة شكلاً، تطبخ كل السياسات التي تلقي بظلالها على أربعة أطراف العالم ومن بين هذه الجدران خرجت الأوامر باغتيال قادة محليين «يزعجون» أميركا.

هنا، لا يدخل إلا الضيوف الكبار والمستشارون وأصحاب القرار. أما الجمهور العريض فيكتفي بمشاهدة الصور ومتابعة لقاءات الرئيس على شاشة التلفزيون. ويقول الذين قادتهم خطواتهم لدخول المكتب البيضوي إن أول ما يلفت الانتباه هو مساحته الواسعة التي تبقى متواضعة قياساً بضخامة القرارات التي تتخذ فيه. إن الرئيس يستطيع أن يجتمع في هذا المكان بحوالي 16 شخصاً من مساعديه، وهم جلوس، وبمجموعة إضافية من المراقبين أو الصحافيين وهم وقوف.

من هذا المكتب، يلقي رئيس الولايات المتحدة الأميركية خطاباته المتلفزة في أشد الساعات خطورة من تاريخ بلاده. ومنه خرجت قرارات غيرت وجه العالم، مثل الإنزال الأميركي على سواحل النورماندي في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، أو قرار إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما ثم على ناغازاكي، وإرسال أول إنسان إلى القمر، وفضيحة ووترغيت، وقضية مونيكا لوينسكي، والحرب على الإرهاب بعد الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001، وقرار الحرب على العراق.

وبسبب كثرة الحروب التي جرى التداول فيها داخل جدران ذلك المكتب، ادرك الرئيس هاري ترومان الذي امتدت ولايته من 1945 الى 1953 جسامة القرارات التي تصدر عن المكتب البيضوي، فأمر بتعليق لوحة على الباب تقول: «المسؤولية تبدأ هنا»، وإذا أردنا الترجمة الدقيقة للعبارة فهي: «عدم المسؤولية يتوقف عند حدود هذا الباب».

لكن أجواء البيت الأبيض، والمكتب البيضوي بالأخص، ليست كلها حروبا ومنازعات. ففي هذا المكتب يمكن للرئيس أن يلاعب أطفاله، أو أن يداعب كلبه، وأن يسمح لنفسه بأن يتمادى في حديث غير موزون، أو في علاقة غير محتشمة. يمكن له، أيضاً، أن يرمي إحدى كرات «الغولف» أو أن يتظاهر بالبحث عن أسلحة الدمار الشامل تحت الطاولة التي يكتب عليها، كما فعل جورج بوش الإبن امام الصحافيين، ذات يوم، فأثار غضب اهالي الجنود الذين سقطوا في العراق.

إن ما يجري في هذا المكتب ليس منزهاً دائماً. فخلال الحرب العالمية الثانية، قام الرئيس فرانكلين روزفلت باستعراض شخصين متنكرين في زي هتلر وموسوليني، أطلق عليهما للتندر اسمي: «ادولف» و«بنيتو». وهناك، بالمقابل صور انسانية مثل الصورة الشهيرة للرئيس جون كينيدي وهو يعمل جالسا إلى المكتب، بينما يسرح طفله جون الصغير تحت قدميه. كما دارت العالم صورة ملك موسيقى الروك الفيس بريسلي وهو يزور المكتب البيضوي مرتدياً عباءة بنفسجية ونظارات سوداء في شتاء 1980.

قبل ذلك بسنة، رفع الرئيس نيكسون سماعة الهاتف من هذا المكتب وتحدث مع القاعدة الفضائية في القمر. وهو المكتب ذاته الذي جرى فيه تسجيل أحاديث لنيكسون مع مساعديه، يطلب فيها التعتيم على قضية ووترغيت، الأمر الذي أطاح به ودفعه إلى الاستقالة.

وعلى الرغم من كل إجراءات الحيطة التي اتخذها الرئيس بيل كلينتون عندما كان يتحادث هاتفياً مع صديقته مونيكا، فإن تسجيلات تلك المكالمات تسربت إلى المتنصتين ثم صارت مشاعة، فيما بعد، للقاصي والداني، من دون أن يتمكن الرئيس من الاحتجاج على اقتحام حياته الشخصية، ذلك أن المكتب هو للحياة الرسمية وللمسؤوليات الجسام، لا للغرام.

تتفرع من المكتب البيضوي غرف جانبية، فهناك باب خلفي في الجدار الأيسر يفضي إلى مطبخ صغير يؤدي إلى غرفة خاصة لاستراحة الرئيس. وخلف الغرفة، هناك نوافذ ذات أبواب تقود إلى «حديقة الورد»، وهي مربع أخضر بمنأى عن النظرات الفضولية، أنشأها عام 1962 الرئيس كينيدي لإقامة بعض المناسبات الرسمية.

وفي صدر المكتب، هناك باب يقود إلى مكاتب السكرتارية الرئاسية. وهناك باب آخر يفضي إلى ممر يواجه «قاعة روزفلت»، وهي صالة للاجتماعات كانت مكتباً رئاسياً لروزفلت بعد تشييد الجناح الغربي للبيت الأبيض عام 1906. وعلى الرغم من أن الرئيس الحالي يحمل الرقم 43 في قائمة الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم الولايات المتحدة، فإنه السابع عشر فقط الذي يشغل هذا المكتب الذي وضع هندسته وليام تافت عام 1909. وقد اختار له الشكل البيضوي في تحية إلى الرئيس جورج واشنطن الذي كان يحب أن يرى زواره جالسين في دائرة مستطيلة حوله، من دون تفاوت في الأماكن تبعا للمقامات.

وهناك في البيت الأبيض العديد من الصالات البيضوية، مثل «الصالون الأصفر»، و«الصالون الأزرق»، و«الصالون الدبلوماسي». وقد سكن الرؤساء وعائلاتهم، طيلة قرنين من الزمان، في المبنى ذاته الذي تقع فيه مكاتب المساعدين. وفي عام 1902 قرر تيودور روزفلت أن يبني طابقاً ثانياً لكي يسكن فيه أطفاله الستة، وأنشأ جناحاً غربياً «موقتاً» أوطأ من مستوى البناء لكي لا يثقل عليه. وفي عام 1929 بعد الحريق الذي شب في المكاتب، قرر فرانكلين روزفلت نقل مكتبه إلى مركز الجناح الغربي، وظل مكتب الرؤساء هناك حتى اليوم.

في مذكراته، كتب كلينتون: «عشقت العمل في ذلك المكتب، فهو مضيء دائماً حتى في الأيام المكفهرة بالغيوم، وذلك بفضل نوافذه الكبيرة وأبوابه الزجاجية المطلة على الجنوب الشرقي. أما في المساء، فإن الإضاءة غير المباشرة تنعكس على السقف المقبب الذي يضاعف النور ويجعل العمل مريحاً. إنه مكان أنيق ومريح، شعرت فيه دائماً بأنني على ما يرام، على سجيتي، سواء أكنت وحيدا أم مع الفريق».

أما بوش الإبن فيكتب عن مكتبه الذي يتأهب لمغادرته، قريباً، قائلا: «كل صباح أدخل إلى هذا المكان الذي اعتبره محراباً للديمقراطية وأجلس إلى طاولة جلس إليها رؤساء قبلي، روزفلت وريغان، وأقرأ تقارير تصاعد التهديدات الإرهابية». هذا ما قاله في مطلع عام 2002. ويسعى بوش إلى تقليد أوائل الرؤساء الأميركيين الذين كانوا يعتبرون هذا المبنى بيتاً للشعب.

ولهذا قرر أن يفتح أبوابه للزوار في المناسبات الكبيرة، مثل اليوم الوطني في الرابع من يوليو (تموز). لكن بوش شديد الحزم بخصوص قيافة الداخلين إلى المكتب البيضوي والبيت الأبيض. وهو يكره أن يرى ربطة عنق محلولة أو هاتفاً جوالا يرن في جيب أحد الزائرين ولا يتورع عن تعنيف صاحبه.

وبخلاف المقابلات الصحافية المبرمجة مسبقاً، لا يسمح للصحافيين بالجلوس أثناء حضورهم تصريحات الرئيس، كما لا يسمح لهم بلمس الأثاث أو المكتبة. وقد حدث هرج ومرج، ذات يوم، أثناء زيارة الرئيس الكوري الجنوبي، إذ سمح الصحافيون الذين معه لأنفسهم بالجلوس على الأرائك الرئاسية.

أين يختبئ الرئيس في حالة حدوث هجوم على البيت الأبيض؟ هناك سرداب مصفح يقع في مكان آخر في المبنى، في الجناح الشرقي، حيث يقع مكتب السيدة الأولى ومكاتب مساعديها. وقد أنشئ هذا المخبأ عام 1942 خلال الحرب العالمية، لكي يلجأ إليه الرئيس في حال حدوث إنذار بالخطر. وعند وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر، اقتيد نائب الرئيس ديك تشيني إلى هذا الملجأ الذي يطلق عليه رسمياً اسم «مركز عمليات الطوارئ الرئاسية».

وهو مزود بنظام للاتصالات يصعب اختراقه، يؤمن استمرار القيادة وإبلاغ الأوامر للقادة الموجودين في الخارج.

وتشرف على كل هذه المنشآت خلية تدعى «خدمات السر»، أنشئت عام 1865 بهدف محاربة تزوير العملة. وهي من أقدم الأجهزة الأمنية في أميركا، وقد تحولت مهماتها، فيما بعد، إلى تأمين حماية الرئيس وأسرته وأقرب المساعدين، وكذلك الزعماء الأجانب الذين يزورون البلاد. وتولت تلك الخلية هذه المهمة بعد اغتيال رئيسين أثناء ولايتهما هما أبراهام لنكولن وجيمس غارفيلد. وقد اُغتيل، بعد ذلك، رئيسان آخران هما وليان مكنلي وجون كينيدي.

يعمل في «خدمات السر» أكثر من خمسة آلاف شخص. وهم مزودون بأجهزة اتصال مخفية في ياقات بدلاتهم، ويستخدمون في محادثاتهم تسمية «التاج» للتدليل على البيت الأبيض، كشيفرة رمزية. أما بوش فاسمه الرمزي «بوثوس» وهي الأحرف الأولى من «رئيس الولايات المتحدة الأميركية».

تقول هيلاري كلينتون في كتاب مذكراتها المعنون «الإقامة في التاريخ» إن السكن في البيت الأبيض يشبه الإقامة في ثكنة عسكرية. وتروي كيف أنها اصطدمت مع «خدمات السر» في سبيل إزاحة الشرطي الواقف على باب غرفة نومها مع الرئيس. وعلى الرغم من تلك الملاحظة، فإن الكثيرين يؤكدون أن الإقامة هناك طابت لهيلاري، بحيث إنها خططت، بدون طائل، للعودة إلى البيت الأبيض وإلى المكتب البيضوي، بالذات.