صناع الجواهر يتوددون لنساء الشرق بقليل من الماس وكثير من الزمرد

جمال تصاميمها يوازي صفاء وضخامة أحجامها
جمال تصاميمها يوازي صفاء وضخامة أحجامها

رغم الحالة الاقتصادية غير المستقرة، والتشاؤم الغالب في ساحة المنتجات المترفة، يحاول كثير من صناع الترف مقاومة الوضع بمزيد من الابتكارات والبذخ.


أكبر دليل على هذا أن أسبوع الـ«هوت كوتير» في باريس لم يصبح فقط عن أسوع أزياء يقدر بعضها بمئات الآلاف من الدولارات، بل كان أيضًا عن جواهر تقدر بالملايين.

نعم، فقد أصبحت بيوت الجواهر تزاحم بيوت الأزياء، وتستعمل كل الإغراءات لاستقطاب الضيوف الموجودين في باريس حتى تستعرض لهم ما تملكه من بريق وحرفية. من «كارتيه» و«بياجيه» إلى «فان كليف أند أربلز» و«ديبيرز»، ومرورًا بـ«بوشرون» و«شوميه» و«بولجاري» وغيرها، كانت المعروضات تزغلل العيون وتجعل دقات القلب تتسارع بشكل غير طبيعي، خصوصًا عند ذكر أسعار تفوق مليوني يورو.

«بولجاري» مثلاً، واحدة من البيوت التي لم تكتف باستعراض أحجارها الكريمة وتصاميمها الأنيقة خلف خزانات زجاجية في محلها الواقع في شارع «جورجV»، ورأت أن هذه التحف تحتاج إلى حركة تبث فيها الحياة، لهذا أقامت حفلاً كبيرًا استعانت فيه بعارضات قدمن ما يقارب 80 قطعة، تباينت بين الجديد والقديم المتجدد.

في ظل هذا الكم الهائل من الأحجار الضخمة والنادرة التي لونت سماء باريس طوال أسبوع الموضة الراقية، تستخلص أن المنافسة على أشدها بين هذه البيوت لاقتطاع قطعة من سوق الشرق الأوسط تحديدًا. مما يؤكد هذه الحقيقة أن حجر الزمرد كان هو السيد في معظم المجموعات، باستثناء قلة ركزت على الماس مثل «ديبيرز» و«ميسيكا».

فهم يعرفون جيدًا أن المرأة الشرقية عمومًا والخليجية خصوصًا تعشق الزمرد وتعتبره جالبًا للحظ، فضلاً عن تقديرها جمالية لونه الأخضر الذي يتمازج مع بشرتها بشكل طبيعي، لهذا لم يبخلوا عليها به.

واللافت هنا لم يكن التركيز عليه، فهم معذورون في ذلك نظرًا لجماله وصفائه، بل استعماله بأحجام ضخمة تشك للوهلة الأولى أن تكون ممكنة أو أن هناك من له الإمكانيات لشرائها، لكن كل من تقابلهم من المتحدثين باسم هذه البيوت يؤكدون العكس، وأن هذه القطع لها زبائن خاصة، وأن بعضها بيع حتى قبل عرضه، وهو ما سيجعلك تشعر بأن هناك عالمًا موازيًا للعالم الذي يعيش فيه عامة الناس، ويُنسيك للحظات أن هناك أزمة اقتصادية، أو على الأقل يُعطيك الانطباع بأنها زوبعة في فنجان، وإلا كيف أن الأحجار تتضخم بهذا الحجم، والأسعار ترتفع لتصل إلى الملايين؟

أغلب المتحدثين باسم هذه البيوت يتجنبون الخوض في الأزمة ويحاولون التمويه عنها بالقول إن الترف له سوقه، لكن أرقام المبيعات تقول العكس، وإن أسواقًا مثل البرازيل والصين وحتى الشرق الأوسط تراجعت بشكل ملموس، بما في ذلك جانب الساعات الفاخرة التي كانت إلى عهد قريب العمود الفقري لصناع الجواهر. الشيء الذي يمكن أن يُعولوا عليه حاليًا هو الأحجار الملونة مثل الزمرد، الذي لم يتوقف الطلب عليه، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما تؤكده نتائج معرض الدوحة للجواهر وغيرها. دار «فان كليف أند أربلز» تقول إن علاقتها بالزمرد تعود إلى بداية القرن الماضي، وليست وليدة الساعة، وتستشهد على ذلك بأنها صممت في عام 1967 تاجًا مرصعًا بهذا الحجر ارتدته فرح بهلوي في يوم عرسها على شاه إيران، إضافة إلى مجموعة من الأطقم الخاصة بالأميرات اللاتي حضرن عرسها. فالأخضر على ما يبدو لا تموت موضته وقيمته، لهذا ليس غريبًا ألا تبخل دور الجواهر برمتها به على زبوناتها، وتجوب العالم كله، من كولومبيا إلى زامبيا، بحثًا عنه.

أما فيما يتعلق بالأحجام التي زادت ضخامة أخيرًا، فالجواب الذي يتردد على ألسنة الخبراء أنها زينة وخزينة في الوقت ذاته.

والمقصود هنا أنها استثمار بعيد المدى لا يفقد قيمته، بل العكس يمكن أن تزيد مع الوقت، لهذا تخاطب شريحة لها إمكانيات مالية خيالية من جهة، وتؤمن بفكرة الاستثمار من جهة أخرى.
ويُبررون أكثر بالقول إن موسم الـ«هوت كوتير» مخصص أساسًا للتصاميم الفريدة من نوعها وكل ما غلا ثمنه، وهذا يتطلب كثيرًا من الإبداع، سواءً تعلق الأمر بالبحث عن أحجار نادرة من أماكن بعيدة، أو مزج ألوانها لخلق تصاميم مبتكرة تُبرز بريقها، وهو ما يحتاج بدوره إلى مهارات خاصة أقرب إلى علم الرياضيات.

فكل جزء وديسيمتر محسوب ويمكن أن يؤثر على هذا البريق. هذا الأمر تعرفه «بولجاري» جيدًا بحكم باعها الطويل في مجال الجواهر وجرأتها في مزج ألوانها المتضاربة، بهدف خلق تناغم عجيب أصبح ماركتها المسجلة، لأن العين تتعرف عليه من بعيد ومن أول نظرة.

أطلقت الدار على مجموعتها الأخيرة، عنوان «ماغنيفسينت انسبرياشن» (Magnificent Inspirations)، كونها استلهمتها من أماكن وثقافات مهمة، كما أن العنوان إشارة إلى أحجارها النادرة وأحجامها الضخمة. فقد استعرضت، مثلاً، قلادة استغرق تجميع حجر الزمرد الذي رُصعت به، 3 سنوات، لأنه من الصعب التوصل إلى نفس مستوى الصفاء والحجم.

وبما أن القلادات كانت الغالبة في هذه المجموعة المكونة من 80 قطعة، فلا بد من الإشارة إلى قلادة أسمتها الدار «اكسترفاغانزا» (Extravaganza) مرصعة بعدد سخي من كابوشون الجمشت، والزمرد، والعقيق، والروبلايت واللؤلؤ، فضلاً عن الماس، إضافة إلى تصاميم أخرى شملت أقراط أذن وأساور وغيرها، لعب فيها الزمرد دورًا كبيرًا.

بيد أن الدار لم تتجاهل مجموعتها الأيقونية «سيربنتي»، إذ عادت إليها تطورها وتجددها حتى تبقى مواكبة للعصر وتتكلم لغة جيل جديد من الزبونات. تجسدت هذه التجديدات في استعمال الماس والزفير والزمرد لخلق أشكال تحاكي المراوح الإسبانية أو ذيول الطواويس، أو أشكال مستوحاة من الموزاييك الإيطالي.

من جهتها، عادت دار «بوشرون» هذا الموسم إلى الطبيعة التي ألهمتها كثيرًا في السابق، حيث ظهرت الكائنات البرية والحية في كثير من هذه القطع، مع لفتة خفيفة إلى فن العمارة. دار «شوميه» لم تختلف عن «بوشرون»، من ناحية غرفها من الطبيعة والورود تحديدًا.

لكن عندما يتطرق الحديث إلى الورود، فلا أحد يضاهي قدرة «بياجيه» على تجسيد جماليات الطبيعة. فقد أكدت عبر تاريخها أنها تتكلم لغة الأزهار والورود بطلاقة، كما تتكلم لغة العصر وتفهم زبائنها جيدًا، بدليل مجموعتها الأخيرة التي يقدر سعر بعض ما قدمته فيها بالملايين، مثل قلادة مرصعة بالزمرد والماس بمليوني يورو. ما يُحسب لـ«بياجيه» أنها تعرف جيدًا أن لكل مقام مقالاً.

فبعد أن توجهت في الآونة الأخيرة إلى جيل الشباب وجيل «إنستاغرام» ووسائل التواصل المختلفة، من خلال حملات مبتكرة وتصاميم أكثر ابتكارًا وشبابية، فإنها خلال أسبوع الـ«هوت كوتير» الأخير توجهت لشريحة مختلفة تمامًا. شريحة قد لا تهتم بوسائل التواصل الاجتماعي لكنها تهتم بالاستثمار وتقدر الجمال، أيًا كان ثمنه.

لهذا فإن اللغة التي لجأت إليها، تلخصت في عنوان مجموعتها: «صاني سايد أوف لايف»، ومعناه «الجانب المشرق من الحياة». تقول الدار إنها دعوة إلى التفاؤل، الذي نحتاجه حاليًا كمضاد للتشاؤم والتذبذبات التي تمر بها سوق المنتجات المترفة. بيد أنه لا بد من الإشارة إلى أن التركيز فيها كان على الإبداع الذي يخاطب قلوب وعقول طبقات فاحشة الثراء، باتت تطلب كل ما يمكن الاستثمار فيه، سواءً كان أعمالاً فنية أو جواهر راقية.

دار «فان كليف أند أربلز» هي الأخرى وظفت كل إمكانياتها الإبداعية والتجارية لدخول المنافسة، بما في ذلك عدم إخفائها توددها لزبائن الشرق الأوسط، باستعمال الزمرد بسخاء. هذا السخاء كان واضحًا حتى في العنوان الذي اختارته لمجموعتها: «الزمرد الملكي» (Emeraude en Majesté).

صحيح أنها ليست المرة الأولى التي استعملت فيها هذا الحجر، حيث يؤكد أرشيفها أنها وظفته في قطع تعود إلى عشرينات القرن الماضي، إلا أن النسخ الجديدة تضج بالجمال والفخامة، لا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن كل زمردة ترصع أحد هذه الخواتم أو الأساور أو أقراط الأذن أو البروشات، يتعدى وزنها 20 قيراطًا.

هناك أيضًا قلادة باسم «كلودين» مرصعة بـ9 أحجار زمرد بوزن إجمالي يبلغ 42.07 قيراط، علمًا بأن قيمة هذه القلادة لا تكمن في حجم أو صفاء أو ندرة أحجارها فحسب، بل أيضًا في كونها مرنة، يمكن فصلها عن بعضها واستعمالها بوجوه مختلفة. نفس التقنية استعملت في قطع أخرى، نذكر منها قلادة «سيريانا» التي تُزينها لؤلؤة طبيعية بوزن 26.82 قيراط، وحجر زمرد من كولومبيا بوزن 26.43 قيراط.

إذا كانت «بولجاري» وباقي دور المجوهرات لعبت على الألوان والتناقضات التي تُتقنها جيدًا، فإن شركة «ديبيرز» اكتفت بالماس. للوهلة الأولى تبدو هذه التحف كلاسيكية، لكن ما إن تقترب منها وتلمس واجهتها وظهرها، حتى تكتشف أنها تتضمن كثيرًا من الابتكار، سواء في طريقة تقطيع الماس أو تقنيات رصه.

تقول الدار إنها من خلال هذه المجموعة الماسية، أرادت أن تقدم تحية للندن، لهذا استوحت خطوطها وأشكالها من 5 معالم أيقونية، هي «ألبرت بريدج»، و«إليزابيث تاور»، ومحطة «باترسي»، و«بيج بان» ونهر التايمز. السبب ليس فقط رغبتها في تأكيد بريطانيتها، بل أيضًا الاستفادة من عنصر الضوء والإضاءة التي تميز هذه المعالم.

فهناك أقراط أذن مستوحاة من نهر التايمز، مثلاً، تجسد انسيابية المياه بشكل هادئ ودرامي في الوقت ذاته، بينما عكست معظم القلادات والخواتم انعكاسات ضوئية مشعة بفضل بريق الماس وطريقة رصه بأحجام متنوعة مع بعض.