الأسواق الجديدة أصبحت تفرض تصاميم طويلة ومحتشمة

الشرق يسحر الغرب بغموضه وثرائه
الشرق يسحر الغرب بغموضه وثرائه

هناك تصاميم نتفاجأ بها على منصات العروض لأننا لا نفهم إن كانت صادرة من تصور شخصي للأناقة، أو توددا لبيئة ستُسوق لها هذه التصاميم بعد ستة أشهر. ففستان طويل بأكمام وياقة عالية، أو تنورة «ماكسي» مع أوشحة أو قبعات وعمامات تغطي الرأس قد تكون مجرد فكرة طرأت على مخيلة المصمم وهو يتابع فيلما سينمائيا، أو يقرأ رواية رومانسية، أو يزور مكانا بعيدا، لكن قد تكون أيضًا مُحملة بمعان وإيحاءات ثقافية وإثنية تفرضها أسواق لها قوة شرائية مهمة.


وسواء كان هذا أو ذاك، فإن النتيجة تصب في صالح المستهلك عموما. والصورة التي تطغى على منصات عروض الأزياء في السنوات الأخيرة مُفعمة بالرزانة والأناقة في الوقت ذاته، مع إيحاءات شرقية تلمسها حينا في سخاء الأقمشة التي تلتف حول الجسم، وحينا في النقشات الإثنية والتطريزات الغنية، وحينا آخر في التصاميم المحتشمة الطويلة.

وتفسير المصممين أن الزمن تغير، ومعه تغير مفهوم الإثارة الذي كان إلى عهد قريب يعتمد على كشف مفاتن الجسد. مفهوم بدأه الراحل جياني فرساتشي في الثمانينات، وعززه توم فورد خلال عهده في دار «جوتشي»، ولم يستطع أحد بعدهما أن يعيد له قوته.

الإثارة في الوقت الحالي مختلفة من ناحية أنها تعتمد على فكر وثقافة، كما على فنية تخاطب كل العالم. صحيح أنها تعطي الانطباع بأن المصممين يغازلون الشرق، وتحديدا المرأة العربية، إلا أنهم، ولحسن حظهم، لقيت قبولا من طرف كل نساء العالم، بغض النظر عن جنسياتهن، وكأنهن كن يتقن إليها. فأينما وجهت نظرك حاليا، تجد فساتين وتنورات طويلة وقمصانا بياقات عالية وأكمام، إلى جانب قبعات وأوشحة، تعقد على شكل عمامات، من وحي الشرق.

منذ نحو عشر سنوات تقريبا، سئل المخضرم كارل لاجرفيلد، مصمم دار «شانيل»، عن تشكيلة قدمها حينذاك وغلبت عليها الرزانة، فكان رده: إن عالم الموضة لا يعيش بمعزل عن الناس ولا الأحداث التي يشهدها العالم، في إشارة إلى الأحداث التي كانت تمر بها منطقة الشرق الأوسط. ومرت السنوات، وتوالت التشكيلات من قبل مصممين آخرين التقطوا الإشارة منه، وقدموا اقتراحات يصُب معظمها في نفس الأسلوب.

ولا نقصد هنا حماس الثنائي الإيطالي دومينيكو دولتشي وستيفانو غابانا لمغازلة هذه السوق أخيرا، لأنه كان حماسا تجاريا مبالغا فيه. ولأنهما قرآ الرسالة بشكل حرفي و«ربحي»، ردا عليها بمحلية وإغراق في العادي، لتكون النتيجة مجموعة من العباءات لم تقدم جديدا لامرأة متذوقة أنيقة ترغب فيما يعبر عن ثقافتها ويحترم بيئتها بأسلوب عالمي.

دار «فالنتينو» كانت أفضل من جسد هذه الرغبة. فمنذ أن تسلمت ماريا غراتزيا تشيوري وبيير باولو بيكيولي مفاتيح الدار، بعد تقاعد مؤسسها فالنتينو غارافاني، ركزا على التطريز والفنية كما على التصاميم الطويلة، ونجحا في تسويقها حتى للمرأة التي كانت سابقا متشبعة بالأسلوب الجريء، وتشعر بأن الأنوثة مرادفة للإثارة

بجمال تصاميمهما، أكدا أن الأنوثة لا تعني كشف المستور قدر ما هي غموض وفنية. وسرعان ما لمست وترا حساسا بداخل كل نساء العالم، وإن كان واضحا منذ البداية، إنها موجة تصب في صالح المرأة العربية، هذا إذا لم تكن موجهة لها أساسا بطريقة ذكية خفية، بحكم أن شركة «مايهولا» القطرية للاستثمار تملك حصة كبيرة من «فالنتينو»، وبحكم أن الغرب بات يعرف جيدا أن المرأة العربية تمتلك قدرات شرائية لا يستهان بها.

كان الرهان عاليا لكنهم ربحوا، فدار «فالنتينو»، مثلا، تسجل أرباحا سنوية عالية على الرغم من الأزمة الاقتصادية العالمية التي أثرت على بيوت أخرى، مع أنها لم تستسهل وتقدم تصاميم مثيرة تلعب على الحواس.

وقد قامت البروفسور رينا لويس، من «لندن كوليدج» للموضة، بعدة أبحاث في هذا المجال للتعرف على من يُقبل عليها، ومن أين تستمد قوتها، وتفاجأت أن التصاميم المحتشمة أو الرزينة تنتشر بين شرائح الشابات أكثر، بغض النظر عن أصولهن ومذاهبهن الدينية والثقافية والإثنية.

فصناع الموضة بالنسبة لبعضهن، لم يكونوا يخاطبوهن سابقا بهذا الشكل المباشر، الأمر الذي كان يتطلب منهن جهدا أكبر لتطويع ما هو مطروح في الأسواق، تارة باعتماد أسلوب الطبقات المتعددة، وتارة باللجوء إلى خياطات يستنسخن لهن قطعا من الموضة يُضفن إليها أكماما أو يزدن من طولها. الآن لم يعدن بحاجة إلى ذلك، فالخيارات التي يقدمها المصممون كثيرة ومتنوعة.

والنتيجة التي توصلت إليها البروفسور رينا لويس تؤكدها أيضًا المجلات البراقة التي تنشر صور جيل الشابات اللواتي فرضن أسلوبهن على السوق، مثل دوقة كايمبريدج، كايت ميدلتون، التي خاصمت منذ البداية أزياء الإغراء لصالح أزياء كلاسيكية راقية، تخفي أكثر مما تُظهر.

ففستان زفافها على الأمير الإنجليزي، ويليام، كان مثالا على هذا، إلى جانب فساتين السهرة التي تعتمدها إلى الآن في المناسبات الكبيرة. ونجمات هوليوود، باستثناء المغنيات، أجمعن أيضًا على أن الغموض أجمل، وعبرن عن قناعتهن هذه بظهورهن في المهرجانات بتصاميم رزينة، لا سيما الثلاثينيات منهن.

ومن جهتهم، يقول المصممون إن ما شجعهم على ركوب هذه الموجة هو المرأة التي راهنوا عليها، فهي ناجحة واثقة بنفسها لا تشعر بأنها بحاجة إلى استغلال أنوثتها للوصول إلى مبتغاها. وهكذا، بعد أن كانت نساء الجيل السابق يرتدين أزياء مغرية لإرضاء أو جذب أنظار الغير ونيل إعجابهم، تريد بنات هذا الجيل أرضاء أنفسهن بارتداء ما يروق لهن ويريحهن.

والمريح هنا يعني أن ينسين ما يلبسن حتى يركزن على ما هو أهم، سواء كان القيام بأعمالهن على أحسن وجه، أو الاستمتاع بسهراتهن دون خوف من أي حرج قد ينتج عن خطأ يسببه لهن فستان قصير أو ياقة مفتوحة بشكل مبالغ فيه. وما يُحسب لهذه الشريحة أنها تنظر إلى الموضة من منظور عملي، ولا تريد التنازل عن أناقتها بقدر ما تريدها أن تخدمها.