الاكتئاب الشتوي .. حالة مرضية علاجها جلسات الضوء

العلاج بالضوء ومضادات الاكتئاب يساعد الأشخاص الذين يصابون بالاكتئاب خلال الشتاء. ويبدو ان الايام القاتمة للشتاء تشرع في ان تفعل فعلها في بعض الناس، بحيث ان الظلام يؤثر على مزاجهم. وفي أواخر التسعينيات عرفت الجمعية الاميركية لعلم النفس ((APA American Psychiatric Association طقس الشتاء الكئيب على انه «اضطراب موسمي فعال» seasonal affective disorder، وهذه العبارة اقترنت مع الحروف المختصرة لها بالانجليزية، وهي SAD، التي تعني بدورها «الحزين».


ومن شأن العلاج بالضوء الذي يشتمل على الجلوس امام ضوء ساطع لمدة نصف ساعة يوميا، رفع المعنويات والمزاج قليلا بالنسبة الى بعض الاشخاص الذين يعانون من هذه الحالة. وبمقدور الادوية المضادة للاكتئاب ان تؤثر هي الاخرى، كما ان هناك دلائل، وبعضها قصصي او روائي، ان الاشخاص الذين يعانون من SAD يشعرون بأنهم افضل اذا ما خرجوا الى الخارج اكثر وفتحوا ستائر نوافذهم وادخلوا نور الشمس الى داخل غرف معيشتهم واتخذوا خطوات لزيادة تعرضهم الى الضوء بشكل اجمالي.

وينطبق الامر ذاته على العديدين منا الذين لا تنطبق عليهم معايير التشخيص بـSAD ومع ذلك يصابون بتعكر المزاج خلال ايام الشتاء القصيرة.

مزاج شتوي
والاشخاص الذين يصابون بالاكتئاب يمرون عادة بحالات من المزاج السيئ احيانا والجيد احيانا اخرى. من هنا فإن SAD يختلف فقط في ان تلك التذبذبات تتبع جدولا زمنيا، بحيث ان الاكتئاب يحل في الخريف ويدوم حتى الربيع. وهناك ايضا نسخة صيفية للاضطراب هذا لكنها تؤثر في اشخاص قلائل جدا.

والمعانون من SAD يصابون بالاكتئاب ايضا في اوقات اخرى من السنة، لكن التعريف الذي وضعته APA ينص على ان الحالات الموسمية، او الفصلية يزيد عددها بكثير عن الحالات غير الفصلية. من هنا فإن التشخيص يتطلب سنتين بكاملهما من دون اي حالات لا علاقة لها بالفصول. كما يواجه اطباء النفس المهمة الصعبة في الفصل بين الاكتئاب النفسي الذي قد تسببه الحوادث التي تحصل بانتظام في خريف كل عام واوائل الشتاء لدى بدء المدارس، وفصل او موسم البطالة، وبين الاكتئاب الذي له علاقة بالفصل ذاته.

وغالبا ما تجرى مقارنة النسخة الشتوية من SAD بالسبات الشتوي حين يفتقر الاشخاص الى الطاقة اللازمة وينامون ساعات اطول من المعدل الطبيعي ملتهمين الحلويات والاطعمة النشوية بحيث تزداد اوزانهم. وقد ينسحبون ايضا من الحياة الاجتماعية ويجدون صعوبة في التركيز. وبعضهم يصف شعورا بالثقل في الاطراف (الساعدين والساقين). وهي حالة تدعى الكآبة الشاذة التي لا تقترن بالفصول ولها اعراض مشابهة.

ويجادل الخبراء ما اذا كانت هذه العلاقة العرضية قد جرى اثباتها، لكن هناك بالتأكيد دلائل محيطية تقول ان النقص في اشعة الشمس في الشتاء من شأنه ان يسبب SAD. ولعل الحقيقة القائلة ان العلاج بالضوء هو احدى القرائن على وجود مثل هذه العلاقة. واظهرت القرائن الوبائية ان SAD هو اكثر شيوعا ويدوم فترات اطول في الاماكن المرتفعة.

ويعتقد الدكتور نورمان روزينثال الطبيب النفسي في المركز الطبي التابع لجامعة جورجتاون في اميركا ومؤلف كتاب «كآبة الشتاء»، الذي كان من بين الاوائل الذين وصفوا حالات SAD، ان السبب الرئيسي قد يكون عدم الحساسية الى الضوء. واغلبية الناس تمر في فصل الشتاء بصورة متساوية نسبيا نظرا الى ان التعرض للانارة الداخلية للمنازل يساعد على موازنة النقص في الضوء الطبيعي. لكن الانارة الداخلية هذه قد تكون ضعيفة جدا بالنسبة الى الذين يعانون من SAD.

نقص الضياء
ولكن كيف يؤثر النقص في الضوء على امزجتنا ونفسياتنا سؤال سيبقى مفتوحا؟ فالضوء بالطبع هو منبه للنظر، وهو يحرض الخلايا في الشبكية الواقعة في خلفية العين التي تقوم بإرسال الاشارات الى الدماغ الذي يقوم بانتاج الصورة المرئية. لكن هناك مسالك عصبية من الشبكية الى الاجزاء الاخرى من الدماغ بما في ذلك نواة suprachiasmatic التي هي جزء من «الوطاء» hypothalamus (ما تحت السرير البصري) الذي يساعد على وضع العديد من اساليب علاجنا النفسي (النوم، حرارة الجسم) قيد التداول على مدى دورة 24 ساعة.

لذلك استنادا الى احدى النظريات، فان الاشخاص الذين يعانون من SAD، والذين فقدوا التأقلم مع الساعات البيولوجية يفيقون نشطاء عندما تقوم مؤقتاتهم الداخلية بتوجيه من نواة suprachiasmatic بدلا من البقاء في السرير.

ولهذه النواة يد في تنظيم الـ«ميلاتونين» melatonin وهو الهورمون الذي تفرزه الغدة الصنوبرية عندما يحين الظلام. لذلك قد يكون من الممكن بالنسبة الى المعانين من SAD انهم يقومون بإنتاج كمية كبيرة من الـ«ميلاتونين» في الشتاء، او قد يصبحون حساسين جدا لتأثيراته.

وثمة نظرية اخرى وهي ان نقص الضوء او عدم الحساسية له قد يعرقل الاساليب الدماغية التي تتأثر بالـ«سيروتونين» serotonin والـ«دوبامين» dopamine وهما مادتان كيميائيتان تلعبان دورا في تنظيم امزجتنا.

وقد يكون من الممكن ايضا ان الاجزاء الاخرى من الدماغ والجسم تشترك ايضا في العملية الحيوية لحفاظ الوقت والزمن، بحيث انه حتى ولو قامت نواة suprachiasmatic والتركيبات الاخرى التي لها علاقة بالتزامن والتأقلم مع الشتاء، فإن هناك ما يتعدى فعلها وتأثيرها، بحيث يبقى الاشخاص المصابون خارج مفعولها او نطاقها.

وترجع الدراسات الخاصة بعلاج الضوء الى الثمانينات من القرن الماضي، غير ان غالبيتها كانت صغيرة او قصيرة او مخطئة في العديد من النواحي. بيد ان الباحثين الذين قاموا بتحليلات شاملة وجدوا ان 20 فقط من اصل 64 دراسة نشرت، تفي بمقاييسهم. وحتى الاستقصاءات الدقيقة واجهت مشكلة تتعلق بالاقراص الوهمية التي هي من الاساسيات في اي دراسة. ومع ذلك بقي هناك «الكثير من القمح بين التبن»، كما يقولون، للقول بأمان ان العلاج الضوئي قد يساعد الاشخاص الذين يعانون من SAD. واكتشفت اغلبية الدراسات ان العلاج الضوئي هذا فعال اكثر في فترة الصباح بدلا من ساعات النهار المتأخرة.

علاج ضوئي
وتبدو بعض علب الضوء لمعالجة SAD كمعدات طبية في حين يبدو بعضها الآخر كالمصابيح التي توضع على الطاولة. وتتراوح الاسعار بعد نظرة سريعة على الانترنت بين 100 و200 دولار. وكانت المجموعات المهنية والوكالات الحكومية قد اقرت استخدام العلاج الضوئي. وبالأمكان الشروع به تدريجيا لكن اغلبية الدراسات اشارت الى ان الذين يعانون من SAD بحاجة الى 30 الى 45 دقيقة من التعرض الى مصدر ضوئي بقوة 10 الاف لوكس lux يوميا، لكي يكون العلاج مؤثرا. واللوكس هو وحدة قياس الضوء تعادل كثافة التدفق الضوئي. و10 الاف لوكس هي بشدة الشعاع الشمسي عند الفجر.

وفي اغلبية المنازل عند المساء تكون الانارة بقوة 300 الى 500 لوكس هو الحد الطبيعي. والتعرض الى الضوء الساطع قد سبب بعض القلق في ما يتعلق بتلف العين. وتقوم بعض الشركات ببيع علب ضوئية لا تبث الضوء في الجزء الازرق من الطيف الضوئي، نظرا لانه يعتقد ان الضوء الازرق هو الاكثر ضررا على شبكية العين. في حين يقوم البعض الاخر ببيع معدات تستخدم اضواء الصمام الثنائي المصدر للضوء LED التي يمكن معايرتها لبث الضوء في مدى الطيف الذي تعتقد الشركات انه اكثر فعالية في اعادة ضبط الايقاع، او الوتيرة اليومية.

وعلى الرغم من ان احتمالات الاصابة بتلف العين لا يمكن استبعادها كليا، الا ان الدراسات التي نشرت حتى الان لم تجد اي سبب كبير يبعث على القلق. ويقول اغلبية الخبراء ان اضواء الفلورسنت العادية طالما انها مجهزة براشح للاشعة ما فوق البنفسجية فهي امينة وفعالة. وتشمل التأثيرات الجانبية صداعا وارهاقا للعين. كما كانت هناك تقارير متنوعة ذكرت ان التعرض الى الضوء يسبب الهوس الخفيف.

وقد اختبر العلاج الضوئي للعديد من الحالات الاخرى مثل «التقيؤ عمدا للبقاء في حالة النحافة الشديدة» (بوليميا نيرفوزا) التي تتداخل احيانا مع SAD، والكآبة التي تعقب الولادة، ومرض الرعاش العصبي (باركنسون).

مضادات الاكتئاب
والعلاج الضوئي قد يستغرق وقتا ويتطلب بعض النظام، اذ يتوجب على الاشخاص الجلوس امام هذه الاضواء فترة من الوقت. لكن الادوية المقاومة للاكتئاب هي اكثر من مناسبة. وفي عام 2006 اقرت وكالة الاغذية والعقاقير الاميركية «ويلبيوترن» Wellbutrin وهو صنف من «بيوبروفن» كعلاج لـ SAD. وجاء هذا الاقرار اعتمادا على دراسات متعددة اظهرت ان العقار نافع في منع اعراض SAD اذا شرع في تناوله في الخريف قبل ظهور الاعراض.

وكان عدد من الدراسات قد اظهر ان عقار «فلوكسيتاين» fluoxetine (بروزاك Prozac) و«سيرترالاين» sertraline والعقاقير الاخرى الانتقائية المانعة للكآبة من زمرة «مانعات سيروتونين ريبيوتيك» serotonin reuptake inhibitor (SSRI) قد تساعد مرضى SAD.

وافاد الباحثون الكنديون ان نتائج التجارب التي اجريت في عام 2006 اظهرت ان «فلوكسيتاين» والعلاج الضوئي هما فعالان بشكل متساو بنسبة 67 في المائة. والاشخاص الذين يتناولون الـ«ميلاتونين» لعلاج الارق الناجم عن الرحلات الجوية الطويلة (جيت لاغ) قد يكون مفيدا لعلاج SAD ايضا. وافاد باحثون من ولاية أوريغون في الولايات المتحدة ان تناول اقراص «ميلاتونين» بعد الظهر يساعد بعض مرضى SAD عن طريق اعادة ضبط ساعاتهم البيولوجية.

واذا كان الضوء هو العلاج لتخفيف آثار SAD فلماذا لا يجلس المعرضون اليه داخل منازلهم في مواجهة نسخة صناعية منه؟ وهذا هو السؤال الذي كان يطرحه الباحثون السويسريون في التسعينات عندما صمموا اختبارا يقوم بمقارنة ساعة من المشي كل صباح بالجلوس امام علبة ضوئية لمدة نصف ساعة. وربما كان النشاط البدني، وليس التعرض الى الضوء الخارجي هو الذي قام برفع المعنويات، كما ان الضوء الذي استخدم في الدراسة وكان بقوة 2800 شمعة كان اقل شدة من الضوء المستخدم اليوم بقوة 10000 شمعة.

واولئك الذين يعتقدون ان SAD مرتبط بمشكلة الايقاع، او الوتيرة اليومية، يعتقدون ان الحل هو في اعادة ضبط الساعة البيولوجية عن طريق ظهور الضوء في الصباح. ومع ذلك فان الدراسة السويسرية هي تذكير بأن التعرض الى الضوء في الاوقات الاخرى من النهار قد يساعد بعض الذين يعانون من SAD، خاصة ربما اولئك الذين يعانون من حالات خفيفة منه. وفي كتابه المذكور سابقا يبحث الدكتور روزينثال كيفية استفادة بعض المرضى من الديكور الداخلي المنزلي، بعد اضافة المزيد من الاضواء ومصابيح السقف، مع قيام بعضهم حتى بالسفر الى المناطق القطبية عندما يستمر شروق الشمس هناك طوال ساعات النهار خلال فصل الصيف في احد نصفي الكرة الارضية.

يبقى القول اخيرا ان من بين العبارات الاخيرة التي نطق بها اديب المانيا الراحل غوتيه قبل وفاته، كطلب من الذين التفوا حوله، هي «رجاء مزيدا من النور».