الإنتحار .. عندما يأتي الموت قبل أوانه !!

ما زالت صورة کليوباترا وهي تنتحر بالأفاعي، حاضرة في الذهن الانساني على الرغم من مرور مئات القرون على تلك الحادثة، ومع ما تشيعه بعض المصادر التاريخية من أن ملکة مصر لم تکن في حقيقة أمرها على ذلك القدر من الحسن والجمال مثلما قرأناه في کتب التأريخ، ولم تکن قصيرة فحسب وإنما حتى دميمة، إلا أن الظروف والملابسات التاريخية المتباينة التي أحاطت بها، مضيفًا الى ذلك طريقة إنتحارها التراجيدية، جعلت منها حسناء بارعة الجمال!


أما مارلين مونرو، شقراء هوليود التي أشيع أنها کانت على علاقة غرامية مع الرئيس جون کندي، فإن إنتحارها منحها نوعًا من الخلود الذي لم يکن بإمکانها نيله أبدًا لو ماتت ميتة طبيعية. ملکة ذات سلطة مطلقة وممثلة مشهورة بارعة الجمال ومعبودة الملايين لماذا إنتحرتا؟

سؤال سعى الکثيرون للإجابة عليه وتفننوا في طرح الحجج والبراهين لآرائهم وطروحاتهم حول ذلك، لکن الأمر الذي يکاد يکون هناك شبه إجماع عليه من قبل الجميع هو أن إنتحارهما کان وراء بريق المجد الذي حظيتا به. وهنا ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة: هل إن الموت يمنح بعدًا جماليًا وحيويًا لشخصية الانسان بعد موته؟ الواقع أن الموت بطلاسمه وأسراره الخالدة خلود الدهر ترك ويترك آثاره على حياة الفرد  والمجمتع الانساني، لکن جدلية العلاقة بين الموت والإنسان تتخذ بعدًا آخر عندما يکون الأمر متعلقًا بالأنثى!

الأنثى والموت
الحکمة والفروسية والطيبة وحب الخير والبقاء، هذه القيم وأخرى مشابهة لها، کانت دومًا خاصة بالرجل لوحده، أما الشر والخبث والکيد والمکر والسحر وکافة الأفعال الشيطانية والفناء والدمار، فهي کانت بالضرورة مترادفة مع الانثى وخاصة بها لوحدها، وحتى إن جان دارك لما سعت لتغيير هذه المعادلة وجدت النيران في إنتظارها لکي تنهي طموحها "غير المسموح به" ذکوريًا!

وقد تکون شخصية "المرأة الساحرة" هي الأعم والأشمل من شخصية "الرجل الساحر"، والتمعن في هذه الحقيقة من حيث مغزاها الإنساني عبر التاريخ له دلالاته الخاصة التي أهمها إن المرأة کانت وإلى فترة قريبة "ولا زالت في نظر الکثير من الثقافات" تمثل قرينا أزليًا لإبليس وهي تمثل قبسًا من الشر إن لم تکن الشر کله! هذه اللعنة رافقت الانثى منذ ذلك المشهد الدرامي الذي أوقعت من خلاله أمنا حواء بأبينا آدم ولذلك فقد کانت تستحق الموت مع کل زلة أو خطأ يبدر منها.

الإنتحار!
الإنتحار عبارة عن إنهاء إفتعالي لحياة الانسان، وهو قرار يتم إتخاذه بحرية بخصوص حياته، وقد تنجح محاولات الانتحار في بعض الاحيان فيما تفشل أحيانًا أخرى.
وللإنتحار أسباب وعوامل متفرقة تختلف من بلد لآخر ومن وسط إجتماعي لآخر، وکذلك من حضارة إنسانية لأخرى. وکلما کانت الحضارة متقدمة تقدمت معها أساليب وطرق الانتحار، مع ملاحظة إنها تکون"أرحم" و"أکثر ليونة"في إنهاء الحياة، کذلك هنالك طرق غريبة لإنهاء الحياة في الحضارات المتقدمة مثل ذلك الالماني الذي إتفق مع رجل آخر عبر الانترنت أن ينهي حياته ويأکله فيما بعد!

لکن الانتحار في البلدان الشرقية مازالت تجري على نمط قديم قلما تجد أي تغييرات جذرية ما تجرى عليه، وعلى الرغم من أن الانتحار هو في النهاية عبارة عن إنهاء الحياة وإن من مات بأکثر الطرق تطورًا وأبشع الطرق تخلفًا، فإن النتيجة سيان فکلاهما قد قضى نحبه، لکن الطرق"الرحيمة"في الانتحار قد تکون المجتمعات الانسانية متقبلة ومتفهمة لها أکثر من الطرق"القاسية" و"العنيفة".

أرقام وإحصائيات عن الإنتحار
"الإنتحار قديم قدم الانسان ذاته، وعلى مر العصور کان هناك أناس لم يجدوا أمامهم من خيار آخر سوى الموت. وتذکر منظمة الصحة العالمية في إحصائية لها إن نسبة الانتحار سنويًا في العالم تصل الى 800 إلى 900 ألف حالة.

وبموجب البحوث والدراسات النفسية والإجتماعية، فإنه وفي بلدان مثل السويد والنرويج والدانمارك، فإن نسبة 40 فردًا من أصل 100 ألف فرد في السنة يفقدون حياتهم عن طريق الانتحار. أما في بلد مثل بريطانيا فإن الانتحار عبارة عن ثالث سبب للموت من بعد أمراض القلب والسرطان. أما في الولايات المتحدة الاميركية فإن کثر من 30 ألف فرد ينتحرون سنويًا أي أن 85 فردًا أميرکيًا ينتحرون في اليوم الواحد، أي أنه وفي کل عشرين ثانية ينتحر إنسان. هذا بالاضافة الى أنه هناك أکثر من 650 ألف حالة محاولة إنتحار في هذا البلد.

وعلى الرغم من أنه ليس هناك وقت محدد للإنتحار، لکن الدراسات والبحوث دلت على ثمة إرتفاع طفيف في نسبة الانتحار في فصلي الربيع والخريف. کما دلت الدراسات العلمية ان ذوي البشرة البيضاء أکثر ميلا للإنتحار من ذوي البشرة السوداء. کما إن نسبة (30% ـ 70%) من حالات الانتحار ناجمة عن حالات الإکتئاب".*

الإنتحار..هل هو خصوصية أنثوية ؟
ليس بالامکان الجزم بأن الانتحار حالة تختص بالنساء لوحدهن، وإن الجنس الذکري خارج الحلقة تمامًا، إذ إنه مثلما منح الانتحار مجدًا وخلودًا لشخصيتين أنثويتين مثل کليوباترا ومارلين مونرو، فإنه کذلك منح الخلود لشخصيات مثل "هانيبال"الذي فضل الموت على رؤية هزيمة جيشه، وکذلك الامر بالنسبة إلى الروائي الاميرکي"آنست همنغواي"و إنتحاره التراجيدي ببندقيته، لکن هنالك ثمة ملاحظة جديرة بالانتباه إليها، وهي أن طريقة إنتحار کليوباترا ومارلين مونرو کانت"رقيقة" و تتسم ببعد رومانسي کما يصفه غالبية المؤرخين و النقاد، بيد أن طريقة إنتحار هانيبال وهمنغواي قد إتسمتا بطابع "خشن" يميل الى القسوة المفرطة مما لا يدفع القارئ لمنحهما بعدًا إستاتيکيًا محددًا يفيض من جانبهما الدفق والاحساس الانساني المرهف الذي يرسم في المخيلة تداعيات حالمة تمنح الانسان تواصلا غريبا و إحساسا فريدا بلذة خاصة.

الشرق والانتحار
الکلام عن الانتحار في شرقنا يجعلنا في مواجهة حقيقة مهمة، وهي أن الانتحار يکاد يسود في الاوساط النسوية أکثر من غيرها، وعلى الرغم من أنه ليست هناك أرقام تعزز هذا الرأي لکن الوضع الفکري ـ الاجتماعي ـ الاقتصادي السائد الذي يطغى عليه قيم المجتمع الرجولي، يدفع الانثى الشرقية الى عدة زوايا حرجة وصعبة لا تتمکن من الخروج منها إلا کجثة هامدة.

ولتسليط الضوء على موضوع الانتحار عند النساء الشرقيات، إلتقت إيلاف بالدکتورة روخوش غريب الباحثة المختصة في التنمية البشرية والمقيمة بهولندا، وسألتها بداية هل أن هناك تفاوتًا في الانتحار بين الذکور والاناث في الشرق فأجابت: "الانتحار بصورة عامة هو قرار فردي يعود أساسًا الى قرار نفسي، لکن هناك علاقة للمجتمع بذلك أي أن البنية الاجتماعية لها تأثير في قرار الانتحار. وهذا الامر جعل من المسألة جبرية و ليس إختيارية.

وبموجب بحث علمي لعالم الإجتماع الفرنسي"إيميل دورکهايم"، فقد أکد أن قرار الانتحار وإن کان فرديًا، لکن المجتمع يقف خلفه وهو طرف أساسي فيه. ولذلك فإن تأثير المجتمع على حالات الانتحار کبيرة، والمرأة لکونها کائن ضعيف في المجتمعات الشرقية ومسلوبة الارادة فإنها تکون أکثر عرضة لحالات الانتحار من غيرها، لا سيما حين تواجه أوضاعًا إجتماعية معقدة أو صعبة.

وعندما يصل الانسان الى قناعة ينهي بموجبها حياته، فإن الاسباب متعددة ومع وضع المسائل الخاصة بالحاجات الاساسية للإنسان من أکل وشرب ومسکن وما إليه في الاعتبار، فإن الانسان بحاجة ماسة أيضًا إلى قضايا روحية وإعتبارية مثل الحب والمشاعر والانتماء والاستقلالية والانجاز والتغيير ومعنى الحياة، کل هذا له علاقة قوية بصيغة حياة الانسان وطريقته، وتبين مدى تفوقه أو إحساسه بالاحباط و الفشل.

ومثلما للإنسان حاجة ماسة إلى المسائل العضوية من قبيل الاکل والشرب والسکن والمسائل المادية الاخرى، فإن حاجته إلى القضايا الروحية والاعتبارية الاخرى تکون هي الاخرى مهمة جدًا وإن إنعدامها قد تکون من الاسباب المهمة لإنهاء حياته.

 وکمثال فإن المطربة الفرنسية"داليدا رحمه‌" والتي کانت تتمتع بأفضل حياة لکنها مع ذلك قررت الانتحار وکتبت بإنها فعلت ذلك لأنه لم يعد لحياتها من معنى، تؤکد مصداقية ما نرمي إليه" وأکدت الدکتورة روخوش من أن نسبة الاناث المنتحرات في المجتمعات الشرقية هي أکبر من نسبة الذکور خصوصًا، وإن خضوعها لقيم إجتماعية تجعل دورها هامشيًا وغير فاعل، مما يقلل من حدود دورها و يجعلها إتکالية بصورة واضحة، ولذلك فإنها ما أن تصدم بجدران إجتماعية أعلى وأقوى منها يکون قرار الموت والانتحار هو خيارها النهائي، فيما قد لا يکون الرجل الشرقي کذلك.

وأشارت الدکتورة غريب الى أن حالات الانتحار في الغرب تکاد تکون متساوية بين الجنسين، وليس هناك تفاوت کبير کالذي نجده في الشرق بين الاناث المنتحرات والذکور المنتحرين، مع الاخذ بنظر الاعتبار أن هناك نظام فکري ـ إجتماعي ـ إقتصادي يمتلك مميزات تجعل کلا الجنسين يتمتعان به مع ملاحظة أمر مهم يکاد يکون فيصلاً بين الشرق والغرب، وهو أن قرار الانتحار في الغرب قرار فردي قد لا يکون للمجتمع تأثير قوي فيه کما هي الحالة في الشرق.