الأزواج أشد تأثرا من الزوجات عند فقدان شريك الحياة

حينما تعتري البعض حالة من الأسى والحزن حداداً على وفاة إنسان عزيز، فإن عدم انضباط المشاعر تلك لدى المرء، عاملٌ قد يتسبب في ارتفاع احتمالات وفاته لاحقاً، إما بالانتحار أو بأي أسباب أخرى. هذا ما توصلت إليه مراجعة علمية للباحثين من هولندا.


ووفق ما تم نشره في عدد 8 ديسمبر الحالي من مجلة (لانست) الطبية البريطانية، فإن الفترة الحساسة لخطورة تداعيات هذا الأمر، هي الثلاثون يوماً الأولى، فيما بعد فقدان ذلك الإنسان العزيز.

كما أظهرت الدراسة أن الأزواج أشد تأثراً بفقدان شريك الحياة، مقارنة مع نوعية التأثر الذي يُصيب الزوجات حال فقدانهن لشريك حياتهن.

وبالرغم من نظرة الناس إلى حالة الحداد التي يعيشها الشخص لفقدان عزيز عليه، بأنها أمر غير اعتيادي، وليس من المتوقع أن تمر على الإنسان تلك المرحلة مرور الكرام.

إلا أن الغالبية من أولئك المُصابين بالفاجعة مطلوب منهم أن يعودوا إلى أعمالهم خلال بضعة أيام، وأن ينخرطوا في معاشرة الناس، بل ونسيان منْ فقدوه وكأن شيئاً لم يحصل، لدرجة أن بعضاً ممن حولهم، في العمل أو غيره، قد لا يُبالي بأحزانهم، وربما يطرح عليهم أحياناً أسئلة «غاية في الغباء»، من نوع: لم أنت غير سعيد؟

تفاعلات طبيعية ومعقدة
ومعلوم أن فقدان شخص عزيز أو محبوب هو واحد من أشد المآسي والانفعالات العاطفية التي يُمكن أن يواجهها الناس في حياتهم. ولذا يُقال طالما أن صحة الإنسان بخير وأن منْ نُعزهم ونُحبهم بخير، فإن فقدان أي شيء بعد ذلك في الحياة لا معنى له ولا يُساوي شيئاً للعقلاء. لكن ولأن الموت شيء شائع الحصول في الحياة، فإن كل إنسان له طريقة مختلفة وفاعلة في التعامل مع الحزن الذي ينشأ عند حصول وفاة عزيز.

وبالرغم من المتاعب والصعوبات العاطفية التي قد يُواجهها المرء، فإن ثمة فترة من الأسى والحزن الطبيعي ومن فقدان الإحساس، وربما الشعور بالذنب أو الغضب، لا تلبث أن تتلاشى تدريجياً مع الوقت، نتيجة تقبل ما جرى والمضي قُدماً في عيش الحياة.

والإشكالية هي حينما تنشأ حالة معقدة من أسى وحزن ما بعد الوفاة Complicated Grief، وهي حالة قد تستمر لفترات زمنية طويلة، وقد تكون عميقة التأثير في صحة نفس الإنسان وجسمه ونوعية طريقة عيشه للحياة، مثل الاكتئاب والتفكير في الإقدام على الانتحار وارتفاع احتمالات الإصابة بأمراض القلب والسرطان وارتفاع ضغط الدم، والقلق، واضطرابات نمط الحياة والإدمان وغيرها.

ولهذا حاول الباحثون النفسيون تطوير برامج علاجية تدخلية لمساعدة هؤلاء المعانين للتغلب على حالة الأسى والحزن حينما تُصبح عميقة التأثير في حياتهم.

وقالت الدكتورة مارغريت ستروبي، الباحثة الرئيسة في الدراسة والمتخصصة في الصحة النفسية بجامعة أترشت في هولندا، إن ثمة حاجة ملحّة لإجراء المزيد من التقييم لفاعلية وسائل برامج المعالجات النفسية التدخلية Psychotherapeutic Intervention Programs للناس الذين يمرون بحالة الحداد ولمعرفة ما هو الأفضل بين تلك البرامج، ولتحديد منْ على وجه الدقة سيستفيد منها، وفي أية ظروف من المتوقع أن تُؤتي تلك البرامج نتائج إيجابية.

وأضافت بأن العلاج التدخلي لفجيعة الوفاة Bereavement Intervention لا يحتاجه كل منْ يمر بفترة من الحداد على وفاة شخص ممن حوله، حتى ولو كان ذلك الشخص عزيزاً عليه. وما نحن بحاجة إلى معرفته هو زيادة مستوى ومصادر معرفتنا بصفات الأشخاص الذين سيستفيدون بشكل أكبر من تلك البرامج، الموجهة للتخفيف عن وقع فاجعة وفاة عزيزعليه.

وأكد الباحثون على ضرورة إجراء مزيد من الدراسات الطبية الهادفة إلى التعرف الى صفات الأشخاص الأكثر عُرضة للتأثر السلبي خلال فترة الحداد، والتعرف أيضاً الى ما يُمكن فعله طبياً من وسائل العلاج النفسي التدخلي لتخفيف معاناتهم بعد جريان الأقدار وانقضائها بوفاة عزيز عليهم.

أسباب ومراحل الحزن
لم تستطع الدراسات النفسية معرفة ما الذي يتسبب بظهور تفاعلات نفسية معقدة من الأسى، في فترة الحداد والحزن على فقدان عزيز. ونظراً للغموض هذا فإن المقولات الطبية تتبنى رأيا يقول ان عملية التفاعل النفسي مكونة من تفاعلات متقاطعة ومتشابكة فيما بين جينات الإنسان وبين الخصائص البيئية، بمعناها الواسع جداً التي عاش ويعيش المرء فيها، والتفاعلات الكيميائية في الدماغ وبقية الجسم، وغيرها من العوامل المؤثرة في ما يُطلق عليه «الشخصية».

وثمة منْ يتبنى تلك النظرية التي تُقسم الأسى والحزن للوفاة إلى خمس مراحل. وهي مراحل يمر بها الإنسان بالتتابع آنذاك. وتشمل المرحلة الأولى مشاعر وتفاعلات نفسية من الإنكار لما جرى Denial، والصدمة من هول ما حصل ، أو اللجوء إلى السكون والانعزال عن الغير. والمرحلة الثانية تتميز بالغضب من أنواع ولأسباب وبتعبيرات متفاوتة.

والمرحلة الثالثة تُوصف باستخدام كلمة مساومة ومفاصلة Bargaining، في تعبير عن بدء تقبل وتصديق فكرة الوفاة ومحاولة فهمها بطريقة أكثر واقعية من المرحلتين السابقتين. وفي المرحلة الرابعة يبدأ الإحباط أو الحزن بالنمو والسيطرة على مشاعر الشخص، ما يُعطيه فرصة للملمة شمل تفكيره وبدئه في تقبل ما جرى وحصل. وهي مرحلة مهمة ومفيدة، تصل بالإنسان نحو المرحلة الخامسة، وهي مرحلة تقبل Acceptance فقدان الشخص العزيز والاعتراف بوفاته.

وما يقوله متبني هذه النظرية هو أن الناس الذين لا يتبعون في تفاعلاتهم النفسية، حال الأسى والحزن للوفاة، هذا الترتيب الطبيعي، أو الذين يعلقون ويلتصقون بمرحلة منها ويُعيدون عيش الدور فيها مرات ومرات، فإنهم سيُعانون من حالة غير صحية من الأسى والحزن للوفاة Unhealthy Grieving.

وهناك منْ لا يرى صحة هذه النظرية، ويضع نظريات أخرى لا مجال للاستطراد في استعراضها. لكن المهم هو أن ثمة آليات متنوعة للناس في التعامل مع حالات الوفاة. ولا يُمكن بحال إغفال دور الجينات الوراثية ولا دور العوامل البيئية، من مناخية وجغرافية وثقافية وسكانية ومجريات أحداث الحياة الاقتصادية وغيرها، ولا دور الحالة الصحية للإنسان، في ظهور تفاعلات مختلفة لدى الناس.

ولذا يقولون إن احتمالات المعاناة من حزن وأسى معقد ترتفع حال موت الشخص العزيز بطريقة دموية أو بطريقة غير متوقعة، كالانتحار أو في حوادث العنف مثلاً. وحال أيضاً تدني مستوى الترابط الاجتماعي للشخص مع الغير. كما تُطرح النظرية النفسية الفلوكلورية القائلة بأن المعاناة من طفولة معقدة ومضطربة سبب في تلك التفاعلات المعقدة.

خطورة الوفاة ترتفع في الأشهر الأولى بعد رحيل شريك الحياة
يرى الباحثون في الدراسة أن فقدان شريك الحياة هو حدث يتسبب بمستوى عال من التوتر في حياة الإنسان، خاصة خلال السنة الأولى من الوفاة. وقالت رودا غولدستن، منسقة رعاية فاجعة الوفاة في مركز فوكس تشاس للسرطان بفيلادلفيا، كثيراً ما نرى أن منْ فقد شريك حياته ينخرط في أنشطة سبق أن مارسها، مع شريك الحياة، مثل ركوب الخيل أو سباق السيارات أو التزلج على الثلج، لكنهم يُمارسونها بطريقة خطرة.

وكثيراً ما أسمع منْ يقول منهم إن حياتي أمست بلا معنى. وبعضهم ربما تنتابه أفكارحول الإقدام على الانتحار، لكنه لا يفعل شيئاً لتحقيق ذلك، ويتمنى لو أنه لا يستيقظ حياً في صباح اليوم التالي! وذلك في إشارة منها لصور متعددة من درجات الحزن العميق واليأس من العيش لمراحل تالية من العمر بلا شريك الحياة. بل وتحدثت عن إحصائيات تدل على أن بعضاً منهم ينغمس في شرب الكحول أو تناول أدوية نفسية أو إهمال الاهتمام بالصحة.

وحينما راجع الباحثون في دراستهم جميع ما تمكنوا من الحصول عليه من دراسات حول حالة الحداد والفاجعة التي صدرت منذ عام 1997، لاحظوا أن أهم النقاط التي وردت في تلك الدراسات، هي:

- ثمة فرق بين معدل الوفيات بين الجنسين بعد الدخول في مرحلة الحداد على فقدان شريك الحياة. ويتمثل الفرق في ارتفاع معدلات الوفيات بين الرجال الذين تتوفى زوجاتهم بالمقارنة مع معدلات الوفيات بين الزوجات اللواتي يتوفى أزواجهن.

- خطورة الوفاة بعد فقدان الشريك ترتفع لدى صغار السن من الأزواج، مقارنة بكبار السن منهم.

- خطورة الوفاة ترتفع في الأشهر الأولى بعد وفاة شريك الحياة.

-  خطورة الوفاة بالإقدام على الانتحار أعلى بين الرجال حينما تتوفى زوجاتهم. وإحدى الدراسات أشارت إلى أن احتمالات انتحار الزوج، نتيجة الحزن على وفاة الزوجة، ترتفع إلى 66 ضعفا خلال الأسبوع الأول من وفاتها، في حين ترتفع حوالي 10 أضعاف فقط في نفس المدة الزمنية بين الزوجات اللواتي فقدن أزواجهن.

- ترتفع نسبة المعاناة من مشكلات صحية عضوية بعد وفاة الشريك، مثل الصداع والدوار واضطرابات الهضم وألم الصدر، ما يعني ارتفاع استهلاك الأدوية وزيادة الحاجة إلى المعالجة في المستشفيات. ويُحاول الباحثون معرفة أسباب ارتباط حزن الحداد على الشريك بمجموعة الأعراض الجسدية التي تظهر بعد ذلك. ومن الفرضيات أن جهاز مناعة الجسم يتأثر سلباً آنذاك.

- يُصاحب حالة الحزن على وفاة الشريك مجموعة من الأعراض النفسية، كالاكتئاب والتوتر والقلق وعدم القدرة على الاندماج الاجتماعي. كما أن حالة الحزن تلك قد تُؤثر في أداء عمل الذاكرة في الدماغ وتدني القدرة على التركيز.

- قد تستمر التفاعلات النفسية والجسدية لمدة أيام أو أسابيع أو أشهر أو سنوات.