المشيمة .. العلماء يبحثون في أسرارها المؤثرة على صحة الطفل والأم

المشيمة.. "شجرة حياة الطفل الوليد":
بعد دقائق من ولادة طفلة صغيرة في صباح ذلك اليوم في مستشفى جامعة كاليفورنيا في هذه المدينة، جرى الاحتفاظ بمشيمتها، وهي عبارة عن كتلة رخوة يجري التخلص منها عادة، والإسراع بنقلها، وكأنها كنز ثمين، عبر الممرات المتعرجة، إلى مختبر سوزان فيشر أستاذة طب النساء والأطفال وعلوم الإنجاب في الجامعة. 
 
وهنالك انكب العلماء عليها بمشارطهم وملاقطهم، وبمجموعة من المواد الكيميائية، لاستخلاص خلايا غريبة تشبه الدقيق، تغزو الرحم وكأنها جيش غاز، للاستيلاء على جسم المرأة لمدة تسعة أشهر بغية الاحتفاظ برحمها حيا، والمشيمة هي نظام دعم الحياة بالنسبة إلى الجنين، وهي عبارة عن قرص من النسيج ملحق ببطانة الرحم من جانب واحد، وبالحبل السري من الجانب الآخر. 
 
والمشيمة تنمو من خلايا الجنين، وليس من الأم، وهي تدعى أيضا "ما بعد الولادة" (afterbirth)، لأنها تخرج بعد ولادة الطفل بزنة تبلغ عادة رطلا واحدا، أو سدس وزن الطفل.
 
دور المشيمة:
المشيمة تؤمن الأكسجين والغذاء، وتقوم بتصريف الفضلات، كما تقوم أيضا بعمل الرئة والكبد والكليتين، وغيرها من الأعضاء، حتى ينطلق الجنين ويقوى، وإذا ما حصل أي خطأ بالنسبة إلى المشيمة فقد يؤدي ذلك إلى مشاكل عديدة، منها الإجهاض، وولادة طفل ميت، والولادة قبل الأوان، وانخفاض وزن المولود، وتسمم الحمل، وهي حالة يرتفع معها ضغط دم الأم ويمكنه القضاء عليها وعلى حملها.
 
وعندما تكون المشيمة صغيرة جدا، أو أكبر من المعتاد، تكون ذلك إشارة إلى مشاكل عديدة، فقد تزايد اعتقاد الباحثين بأن اضطرابات المشيمة يمكنها أن تغير بصورة دائمة صحة الأم والطفل.
 
ومع دورها الحيوي الكبير، فإنه من المهم أن يعرف عنها القليل، فقط شرع العلماء أخيرا يشكّون أنها قد لا تكون عديمة الفائدة كما كان يعتقد سابقا، بل هي مستوطنة حية صغيرة لجميع العضويات الصغيرة التي قد تساعد على تشكيل النظام المناعي للجنين، لتؤثر بعد ذلك على صحته في مراحل لاحقة.
 
وكانت فيشر وغيرها من الباحثين قد قاموا بدراسة المشيمة لعقود من الزمن، لكنها ذكرت "أنه مقارنة بما ينبغي أن نعرف، فإننا لا نعرف شيئا. فهو المكان الذي نعتقد معه أنه يمكننا تحقيق الكثير من الاختراقات الطبية التي ستكون مهمة جدا بالنسبة إلى النساء والأطفال والعائلات".
 
ويصف المعهد القومي لصحة الأطفال والإنماء البشري المشيمة بأنها العضو البشري الذي لا نفهمه كثيرا، وهو الأكثر أهمية ليس على صعيد صحة الأم وجنينها فحسب، خلال فترة الحمل، بل على صعيد الحياة الطويلة الأمد أيضا بالنسبة إلى الاثنين معا.
 
وتقوم المشيمة بتأمين إمدادات الدم خلال الأسابيع العشرة حتى الـ12، من بداية الحمل، وفي نهاية المطاف تقوم بغزو 80 إلى 100 من الأوعية الرحمية التي تدعى الشرايين الحلزونية لتنمي نحو 32 ميلا من الشعيرات الدموية، وتقوم الخلايا المشيمية بتشكيل نتوءات صغيرة شبيهة بالأصابع تدعى "الزغب" تحتوي على الشعيرات الدموية هذه، والتي تتصل مع دم الأم، لتلقي الأكسجين منه، والمواد الغذائية أيضا، فضلا عن التخلص من الفضلات والنفايات.
 
وإذا ما نشرنا هذا النسيج الذي تشكل لتبادل الأكسجين والغذاء، فإنه قادر على أن يغطي 120 إلى 150 قدما مربعة، ففي كل دقيقة يتدفق نحو 20 في المائة من دم الأم عبر المشيمة، والخط الأمامي الذي يتلقى هذا الاجتياح الدموي هو خلية تدعى "الأرومة الغازية" (trophoblast)، وذلك من الطبقة الخارجية للجنين، وفي بداية الحمل تتكاثر هذه الخلايا بكثرة كبيرة لتنطلق أشبه بطابور من الجنود.
 
غزو جنيني:
وتكون خلايا "الأرومة الغازية" شديدة الاندفاع والقدرة على الاجتياح منذ البداية، كما تقول فيشر: "مما يمكنها من اختراق بطانة الرحم لكي تكمن هناك وتستقر».
 
وهي في هذا المسعى تزيح الخلايا الأخرى من الطريق، ولتقضي عليها مستخدمة إنزيمات هضمية، أو تفرز مواد تحفز الخلايا على قتل ذاتها، ويقول مايكل ماك ماستر، أستاذ علم بيولوجيا الخلايا والأنسجة في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، إن الفشل في هذه العملية المبكرة غالبا ما يحدث. 
 
والناس غالبا ما يفترضون أن الإجهاض وغيره من المشاكل سببها الجنين ذاته "وقد يكون من الصحيح في هذه المرحلة المبكرة القول إن الكثير من الخلل في وظائف (الأرومة الغازية) قد يؤكد، أو يشير إلى فقدان الحمل، أو حصول أمراض مستقبلية".
 
و"الأرومة الغازية" هي من قوة الغزو والاجتياح، بحيث يمكنها تشكيل مشيمة في كل مكان، حتى ولو استقرت على نسيج غير الرحم، وأحيانا يبدأ الحمل خارج الرحم في قناة فالوب، أو في أي مكان في البطن، بحيث إن النمو السريع والمخترق للمشيمة يمكن من تمزيق الأعضاء.
 
والمشيمة التي تتشكل فوق ندبة، أو جرح موجود على الرحم، حيث البطانة رقيقة، أو غائبة، بسبب عملية قيصرية سابقة، من شأنها أن تتوغل عميقا، مما يصعب إزالتها لاحقا خلال الولادة، والطريقة الوحيدة التي تحول دون نزف الأم حتى الموت هي في إزالة الرحم.
 
واكتشف مختبر فيشر أنه مع قيام "الأرومة الغازية" بالاجتياح، فإنها تغير بعض البروتينات المعينة الموجودة على سطحها التي تسمى الجزيئات الالتصاقية، أو الالتحامية، لتصبح متحركة أكثر، وقد وجد الباحثون لاحقا أن الخلايا السرطانية تقوم بالعمل ذاته، وهي تنتشر من الورم لتغزو الأجزاء الأخرى من الجسم، كذلك تتغير "الأرومة الغازية" بأساليب أخرى مقلدة خلايا الأوعية الدموية التي تقوم بغزوها واجتياحها. 
 
فالشرايين اللولبية التي تقوم بتغذية بطانة الرحم تصبح مرصوفة ومبلطة بـ "الأرومة الغازية" بدلا من خلايا المرأة ذاتها، ومثل هذه العملية التي "تعيد الصياغة" توسع الشرايين وتمددها بصورة كبيرة بغية جعل الدم يتدفق إلى المشيمة، وبالتالي تغذية الزغب، وتعلق فيشر على ذلك بقولها وهي تتفحص صورة مجهرية للشريان المعاد صياغته "انظروا إلى قطر هذا الوعاء الدموي، فهو يبدو أشبه بوحش من أعماق البحر".
 
ومثل عمليات الاجتياح وإعادة الصياغة هي ضرورية، فإن لم تحصل لا يمكن للمشيمة أن تحصل على كمية الدم الكافي لكي تتطور يشكل طبيعي، وقد تكون النتائج كارثية، وإحداها يمكن أن تكون تسمم الحمل الذي يصيب 2 إلى 5 في المائة من النساء الحوامل في الولايات المتحدة، بيد أن المعدلات هذه هي أعلى في الدول الفقيرة، لا سيما أفريقيا، والحالة هذه ترفع ضغط الدم لدى الأم، وتتسبب في غيره من الأشياء غير الطبيعية التي قد تكون مميتة.
 
ويعتبر تسمم الحمل مرضا مشيميا، فغالبية النساء المصابات به يملكن مشيمات صغيرة غير طبيعية، ولدى قيام إخصائيي علم الأمراض بفحصهن بعد الولادة، غالبا ما يجدون خثارات دموية، وتغيرا باللون، وتطورا ضعيفا في إمدادات الدم.
 
أما لماذا وكيف تحصل هذه الحالة، فغير واضح، فلأسباب غير معروفة لا تتشكل المشيمة بشكل صحيح، ولا تستطيع مجاراة متطلبات الجنين النامي، ولا تستطيع "الأرومة الغازية" أن تتغير تماما إلى خلايا شريانية، بل تبدأ بإنتاج مجموعة من الجزيئات غير الطبيعية التي ترفع ضغط دم الأم، وقد تصيب أوعيتها الدموية بالتلف، وارتفاع ضغط الدم قد يكون محاولة للتعويض، عن طريق فرض المزيد من تفعيل الدورة الدموية للمشيمة، لكنها قد تأتي بنتائج عكسية، والعلاج الوحيد هو طرح الجنين، مما قد يعطي نتائج جيدة، لأنه يزيل المشيمة أيضا.