ما معني أن ترتدي فستان من «الهوت كوتير»

رغم رمادية السماء وزخات المطر التي كانت تداهم العروض، بين الفينة والأخرى لتؤخرها، خصوصا تلك التي اقيمت في الحدائق المفتوحة، كان الأسبوع الماضي غير عادي بروعته وفخامته. فخامة مثل الحلم استدعت أحيانا بطلات فيلم «ذهب مع الريح» أو الحياة المرفهة في «سيدتي الجميلة» واناقة الزمن الجميل، التي ارتبطت في أذهاننا بجميلات أفلام الأبيض والأسود، وفي أحيان اخرى أميرات من الميثولوجيا الإغريقية أو نجمات بوليوود.


لكن رغم اختلاف الإيحاءات والمصادر، إلا ان الترف والفخامة كانا القاسم المشترك في كل العروض. وهذا ليس بالغريب، إذا اخذنا بعين الاعتبار ان الموسم خاص بالهوت كوتير، أي الموسم الذي قد يصل فيه سعر الفستان الواحد إلى مئات الآلاف من الدولارات، ويستغرق أسابيع طويلة من العمل الدؤوب لإخراجه بصورة فنية لا تكرر وتبرر سعره الناري. من الناحية الفنية، هو ايضا موسم لا يهتم بأنصاف الحلول أو المنطق. فالحلول هنا هي إطلاق العنان للخيال والفنية، والمنطق هو فرض اسم الدار بالقوة ولغة المال، رغم كل ما يقال عن عدد زبوناته الذي تقلص في العقد الأخير إلى حوالي مائتي زبونة من كل أنحاء العالم.

هذا الاسبوع يعد مفخرة باريس، لأنه الوحيد الذي تحتكره تماما، ولا تستطيع أي عاصمة أخرى ان تنافسها عليه. فقد تكون لنيويورك وميلانو ولندن أسابيعها، لكن ولا واحدة لها اسبوع للخياطة الرفيعة. ومن هنا تأتي فخامته وفنيته التي لا يعلى عليها، خصوصا من أعرق بيتين: كريستيان ديور وشانيل. فهما مدرستان تلتقيان في العراقة والثقافة الباريسية وتختلفان في الأسلوب والتفاصيل، ومن دونهما يصعب تصور ان يكون لباريس موضة اصلا. يوم الإثنين الماضي كان تاريخيا بالنسبة لدار ديور، على وجه الخصوص، ففيه احتفلت بمرور ستين عاما على تأسيسها، مما انعكس على مكان العرض: قصر فرساي الملكي، الذي يبعد عن وسط باريس حوالي نصف ساعة، وعلى الأزياء التي جاءت تحفا فنية متحركة. فالمعروف عن العبقري البريطاني، جون غاليانو، الذي احتفل، هو الآخر، بمرور عشر سنوات على عمله مع هذه الدار الفرنسية العريقة، أنه يفضل ان يمشي ضد التيار.

كل التوقعات كانت تشير إلى ان تحيته «لستينية الدار» ستتركز على إرث المسيو كريستيان ديور، المؤسس، وبالذات على «دي نيو لوك»، الذي ابتكره في عام 1947 وكان ثورة بكل المقاييس حينها. فأوروبا كانت خارجة لتوها من الحرب العالمية الثانية، وكان هذا الإبداع بمثابة النفس العميق الذي منحه ديور لأنيقات العالم المتعطشات للجديد والانعتاق من الأزياء المتقشفة، وبالتالي كان هدية قيمة بكل المقاييس، بدءا من الخامات المترفة إلى التصميم الانثوي بالخصر الضيق والتنورة المستقيمة وأكتاف الجاكيتات والفساتين المحددة. لكن غاليانو ارتأى الا يركز فقط على هذا الجانب، بل أن يثير الانتباه إلى جزئية تكاد ان تكون غائبة عن أغلب الناس، وهي ان المؤسس درس الهندسة وامتهن التصميم، لكنه كان فنانا قلبا وقالبا. قد كان يمارس هواية الرسم، كما كان يصاحب العديد من رسامي العالم، وعلى رأسهم صديقه جون كوكتو، أثر عليهم وأثروا عليه، لذلك ما رأيناه يوم الإثنين الماضي في قصر فرساي، بعنوان «لي بال دي زاغتيست» (حفل الفنانين) كان، بكل بساطة، معرضا فنيا بلوحات متحركة على أجسام عارضات سوبر. كل فستان كان تحية لرسام خلد اسمه في الفن، بدءا من ليوناردو دافنشي، وكارافاجو إلى فرمير ورينوار وبيكاسو وهلم جرا. ولأن الفن يعني الجمال المطلق، ولأن المناسبة لا تحتمل البخل، فقد استعان بعارضات سوبر من حقبة الثمانينات لتجسيد هذه الصور الفنية. فقد كانت هناك ليندا إيفانجليستا، كارين مولدر، ناعومي كامبل، هيلينا كريستنسن، إلى جانب ليلي كول، جيزيل براندشن وغيرهن.

في المقابل، كانت القصة مختلفة صباح يوم الثلاثاء في حدائق «سانت كلو» بضواحي باريس، في عرض دار شانيل. فمصممها كارل لاغرفيلد، الذي تدين له الخياطة الرفيعة بالكثير، على ما هي عليه اليوم من حداثة وحيوية، ينتمي إلى مدرسة الكلاسيكية العصرية التي ترفع شعار السهل الممتنع، مما يجعل كل ما يطرحه في السوق بمثابة الذهب من حيث قيمته. عرضه كان كل ما توقعناه من مبدع يحترم اسم مؤسسة الدار، لكن كل انظاره موجهة نحو المستقبل وما تريده زبوناته. بعبارة اخرى يمكن للأميرة كارولين أوف موناكو، ان تجد كل ما تريده في هذه التشكيلة، كما يمكن لابنتها شارلوت كاسيراجي ان تجد كل ما تريده. ففساتين السهرة كانت اكثر من رائعة بتفاصيلها، التي رسمها لاغرفيلد ونفذتها الايادي الناعمة التي يكن لها كل الاحترام. فالتطريزات اضفت عليها الفخامة والتألق، كما ان طريقة قص المعاطف على شكل شالات بقلنسوات اضفت على العارضات رشاقة لا شك ستجد صدى طيبا لدى زبوناته.

وطبعا لا يمكن الحديث عن شانيل من دون الحديث عن الفستان الناعم والتايور المفصل الذي اشتهرت بهما الدار منذ البداية وما زالا يخضعان لتطويرات عصرية موسما بعد موسم. عروض الكبار لم تنته عند هذا الحد، فإيلي صعب الذي استغل المناسبة لإقامة حفل بافتتاح محله الجديد، قدم عرضا ظل صداه يتردد حتى اليوم الثاني. فهذا المصمم اكثر من يتقن عنصر الإبهار والأنوثة عندما يتعلق الأمر بفساتين السهرة. قد ينتقده البعض بأنها موجهة للثريات العربيات والأميركيات، لكن النتيجة التي لا يستطيع أحد إنكارها أنها ساحرة. اقتصرت تشكيلته على درجات الفضي والأسود، لأنها، كما قال، تحية لنجمات افلام الأبيض والأسود. جاءت الفساتين في غاية الأنوثة تتراقص مع كل خطوة تمشيها العارضات، مرصعة بالاحجار وشلالات من الخيوط المتدلية على أقمشة مترفة. فساتين اقل ما يمكن ان يقال عنها انها تحف، قد لا تكون بفنية غاليانو، لكنها أكثر رومانسية بالمفهوم المعاصر.

الجميل فيها ايضا انها لا تحتاج إلى أي اكسسوارات إضافية، بحسب ما أكد عليه مظهر العارضات، بتسريحات شعرهن المشدود إلى الوراء ببساطة، وماكياجهن المتقن وغياب أي شكل من اشكال الاكسسوارات، بما فيها المجوهرات. نظرا لأناقتها، حتى فساتين الكوكوتيل القصيرة يمكن ان تناسب افخم المناسبات وأهمها. المأخذ الوحيد على إيلي صعب، أنه منذ ان نجحت تشكيلته «شمس بيروت» العام الماضي، التي اقتصرت على اللون الذهبي، بدأ يكتفي بالوان محدودة في كل موسم، الأمر الذي قد يعطي الانطباع أحيانا بان بعض التصميمات مكررة، وهذه علامة غير إيجابية. كان من الممكن ان يقدم عددا اقل من التصميمات من دون ان يؤثر الأمر على النتيجة المؤثرة التي حصل عليها. فالكيف دائما يغطي على الكم، لكن لحسن حظه هذه المرة ايضا انه خرج من التجربة رابحا، لأنه أكد مرة اخرى انه مايسترو حقيقي، وأنه يعرف زبوناته، العربيات والأميركيات جيدا. وهنا يكمن ذكاؤه الفني والعملي في الوقت ذاته. فهو، قد يكون المصمم الوحيد الذي لم يتأثر بتذبذبات السوق التي عانى منها غيره من الكبار، بفضل ولاء زبوناته له، وولائه لهن.

المصمم جيورجيو أرماني، الذي يحاول دوما مغازلة هوليوود، من خلال خطه «أرماني بريفيه» أيضا طرح قطعا بالفضي، لكنه حقنها بجرعة زائدة من الألوان، وبالأخص الوردي الصارخ. تبريره في ذلك انها مستلهمة من أسلوب مغني الروك آند رول المخضرم ديفيد بوي، موضحا: «إنه روك اند رول بنغمات خفيفة جدا.. لقد فكرت في امرأة اليوم.. فالكثير تغير في عالمنا حتى بالنسبة للثريات، والمرأة التي تعدت مرحلة الشباب، لا تزال تريد ان تلبس أزياء شابة، وأنا اصمم لمن تريد ان تفرض نفسها». وربما هذا هو ما يفسر بعض القطع الجريئة مثل معطف وردي مزين بالريش، وجاكيت بوليرو بالبرتقالي بأكمام منفوخة جدا وفستان من دون كتفين بتنورة بشكل بيضاوي، وتوكيسدو بقميص وردي.

لكن نظرا لكثرة المعجبات بأرماني، فإنه لا خوف عليه من بعض الجنون والغرابة، لانهن يعرفن انهن سيحصلن منه على تصميمات اقل صخبا عندما يرغبن في ذلك. في هذه التشكيلة يبقى الفضي هو المضمون، لاسيما فيما يتعلق بمناسبات السهرة والمساء، على العكس من تشكيلة جون بول غوتييه، التي كانت فيها النقوشات هي البطل، لأنه فنان يعرف الوانه وكيف يمزج الشقاوة بالعملية بطريقة يحسده عليها العديد من المصممين. فقد نجح في أن يجعل حتى نقوشات جلود الحيوانات تبدو عصرية ومغرية، بل وكلاسيكية. الإيحاءات هنا ايضا كانت غنية، مع فرق بسيط، وهو انه في الوقت الذي كان فيه باقي المصممين يغازلون أسواق آسيا وأوروبا الشرقية وروسيا، وهي اسواق لا يستهان بها من حيث إنعاشها للهوت كوتير في الآونة الآخيرة، يبدو ان غوتييه صوب انظاره إلى أثرياء بوليوود.

فالتطريزات هندية والكثير من القطع والاكسسوارات تشير إلى انها تليق بمهراجا، أو على الأقل بنجمة بوليوودية. ـ بالنسبة لأية واحدة تريد فستان سهرة تتألق فيه في أجمل وأفخم المناسبات، فإن اللون الفضي، بغض النظر عن درجاته، سيكون هو السيد في الموسم القادم. فقد كان حاضرا ليس في عرض إيلي صعب وحده، بل ايضا في عروض ارماني وجيفنشي وغيرهما.