تراجعت الفروق الطبقية .. أنظمة التقسيط تقلب معايير الغنى والفقر في مصر

تمكّن نظام التقسيط الذي امتد إلى كل مناحي الحياة في مصر في السنوات القليلة الماضية من إحداث تغييرات جذرية في مفهوم الطبقات الاجتماعية والاقتصادية بشكل لم يسبق له مثيل. ويعتبر هذا التغيير الأكبر حجماً والأعمق معنى منذ قيام ثورة تموز (يوليو) 1952. فحتى سنوات قليلة مضت، كان امتلاك سيارة أو شقة العلامة الأبرز على انتماء شخص ما إلى شريحة اجتماعية واقتصادية تقع في منطقة ما بين منتصف الهرم الاجتماعي وأعلاه.


وبالطبع كانت مواصفات السيارة وتاريخ تصنيعها ومساحة الشقة وموقعها من المؤشرات المهمة في تحديد الموقع التفصيلي لصاحبهما. لكن مؤشرات الانتماء الطبقي انقلبت رأساً على عقب، وتداخلت عوامل أخرى في رسم صورة التعريف الطبقي للمصريين في الألفية الثالثة. وعلى رغم الشكوى الدائمة والمزمنة من غلاء الأسعار وتدني الأجور وعدم القدرة على إشباع الحاجات الرئيسية، يمكن التأكيد أن مفهوم «الحاجات الأساسية أضحى أكثر مرونة واتساعاً». صحيح أن ما لا يقل عن 17 في المئة من المصريين (بحسب تقديرات البنك الدولي) يعانون من الافتقار إلى المتطلبات الرئيسية، إلا أن البقية باتت لا تقنع بأقل من هاتف خليوي وصحن لاقط (دش) وسيارة صغيرة وكومبيوتر شخصي (محمول) وملابس حديثه، وجهاز تكييف ومدارس لغات للأبناء كحد أدنى لمستوى المعيشة. ولحسن الحظ باتت كل هذه «الأساسيات» متوافرة بـ «التقسيط المريح».

تامر السيد (29 سنة) نموذج حي لنظام التقسيط حين يتحكم في الإنسان من رأسه إلى أخمص قدميه، فهو مندوب مبيعات لا يتجاوز دخله الشهري 450 جنيهاً مصرياً (نحو 75 دولاراً أميركياً)، وعلى رغم ذلك فإن مظهره العام يوحي بما هو أكثر من ذلك بكثير. لديه أحدث هاتف خليوي، وكومبيوتر محمول وسيارة صغيرة ونظارة شمس، ويوشك على امتلاك شقة في إحدى المدن الجديدة وكل ذلك بالتقسيط. وعلى رغم أن تامر يعيش في ضائقة مالية لا يتوقع أن تزول في المستقبل القريب ولا البعيد، إلا أنه على حد قوله «يتمتع بمعظم مباهج الحياة شأنه شأن أولاد الذوات». الطريف أن نظام التقسيط الذي بات مستشرياً في المجتمع المصري ينتعش في مواسم معينة. فمثلاً تظهر أنظمة الحج والعمرة بالتقسيط في مواسمها، وتخرج إعلانات شراء خروف العيد بالتقسيط قبل حلول عيد الأضحى، كذلك رحلات قضاء أعياد الميلاد ورأس السنة في الخارج في شهري تشرين الثاني (نوفمبر) وكانون الأول (ديسمبر).

وفي الوقت الذي يدخل فيه التقسيط الشعبي فترة ركود نسبي في الشتاء، فما أن يحل الصيف حتى تتصارع إعلانات أجهزة التكييف، ورحلات الاصطياف، والسفر إلى الخارج، وتركيب الصحون اللاقطة، وبيع الشاليهات والشقق الساحلية، والدورات التعليمية، وعمليات التجميل والتنحيف والنفخ، والأثاث، والأجهزة الكهربائية، والأدوات المنزلية، والعطور العالمية، ولعب الأطفال... وكل ذلك بالتقسيط المريح.

واللافت أن نسبة كبيرة من هذه الفرص تتم خارج إطار الضمانات المصرفية وكشوف الرواتب والممتلكات، إذ يعتمد الكثير منها إما على تحرير ما يسمى «وصولات الأمانة»، أو على اتفاق «جنتلمان» بين البائع والمشتري.

ولأن «الحاجة أم الاختراع»، فقد اتخذ البعض من فكرة «التقسيط» مهنة له، إذ تنتشر في الأحياء الشعبية ظاهرة قيام إحدى السيدات بشراء الأجهزة الكهربائية، أو الملابس النسائية، أو الأدوات المنزلية لتبيعها من أهل المنطقة بنظام التقسيط الذي تضع قواعده بنفسها. والطريف أن المبالغ التي تشتري بها النساء بضاعتهن كثيراً ما تكون مقترضة وتسدّد بنظام التقسيط أيضاً.

إلا أن نظام التقسيط الأكثر بروزاً في المجتمع هو ذلك السائد في النقابات المهنية، والشركات والمؤسسات الكبرى، والمصارف الضخمة وجميعها يتبارى في تقديم خدمات البيع من طريق التقسيط إما خدمة لأعضاء نقابة بعينها مثل الأطباء أو الصحافيين أو المهندسين أو المعلمين، أو كنوع من «البيزنس» لتحقيق أرباح مادية ضخمة من خلال بيع العقارات المقدرة أسعارها بالملايين.