فقر الدم المنجلي .. هل يمكن تحويله إلى مرض يمكن التعامل معه؟

التطورات الطبية نجحت في منع الوفيات المبكرة ورصد الإصابات بسرعة
التطورات الطبية نجحت في منع الوفيات المبكرة ورصد الإصابات بسرعة

 في معظم الأيام، تتصرف جيوفانا بولي مثل أي طفلة عادية في الـ12 من عمرها؛ إذ تستمتع بركوب الدراجات مع شقيقها وقراءة كتب عن الكواكب خلال درس العلوم.
 
وهي ترغب في العمل طبيبة أطفال عندما تكبر. إلا أن جيوفانا، الفتاة بنية الشعر من منطقة «ويست بالم بيتش» في فلوريدا، تعاني أيضا آلاما مبرحة وتصيبها أمراض على نحو متكرر وتتعرض مختلف أعضاء جسمها لأضرار.
 
فقر الدم المنجلي 
ولدت جيوفانا بمرض فقر الدم المنجلي sickle cell disease، وهو خلل جيني يحمل مضاعفات يتعذر التكهن بها تسبب اتخاذ خلايا الدم الحمراء شكلا غير عادي يشبه المنجل، مما يزيد من صعوبة تدفق الدم عبر الأوعية الدموية ونقل الأكسجين إلى مختلف أرجاء الجسم.
 
وقالت عن حالتها: «عادة ما أشعر أنني على ما يرام، لكن في بعض الأيام أشعر بألم بالغ في ساقي وذراعي. حينها أصبح غير قادرة على السير، ولا أحب أن يلمسني أحد. إنه وضع مؤلم للغاية وأضطر للذهاب للمستشفى».
 
يولد سنويا داخل الولايات المتحدة قرابة 1000 طفل مصاب بمرض نقص الدم المنجلي، وهو مرض يعتقد أن قرابة 100 ألف أميركي يعانونه.
 
ومنذ 40 عاما، كان المستقبل الذي ينتظر الأطفال المولودين بهذا المرض يبدو كئيبا للغاية؛ حيث بلغ متوسط طول عمر الطفل المصاب 14 عاما فقط.
 
إلا أنه على مدار العقود الأربعة الماضية، ظهرت علاجات جديدة وتقنيات تدخل مبكر وبرامح لتفحص حديثي الولادة، مما ساعد في إحداث تحول في أسلوب التعامل مع هذا المرض الذي كان من قبل بمثابة حكم بالإعدام، بحيث تحول لمرض مزمن يمكن التعامل معه.
 
يقول الدكتور كلينتون إتش. جوينر، مدير قسم أمراض الدم في مركز سنسناتي الطبي للأطفال: «لقد تغير مجمل توجهنا إزاء معالجة مرض نقص الدم المنجلي»، مشيرا إلى أن غالبية المرضى يعيشون اليوم حتى الـ40 من عمرهم.
 
وأضاف: «على امتداد الأعوام العشرين الماضية، تحولنا من علاج المضاعفات التي تنشأ عن المرض إلى منعها تماما. وقد خلف ذلك تأثيرا دراماتيكيا على معدلات انتشار المرض والوفيات. اليوم، يتمكن الأطفال المصابون من العيش حتى سن البلوغ».
 
تطورات طبية 
عادة لا تظهر أعراض المرض على الأطفال المصابين بنقص الدم المنجلي حتى بعد 6 شهور من العمر. في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كان الآباء والأمهات ينقلون أطفالهم البالغين من العمر 6 شهور، الذين يبدون بصحة جيدة، بناء على ظنهم أنهم مصابون بحمى شديدة؛ حيث يتم نقلهم إلى غرفة العناية المركزة.
 
وعادة ما يتوفى الطفل في غضون ساعات قليلة لاحقا. ويؤكد د. جوينر أن هذا الموقف كان شائعا للغاية، مشيرا إلى أن قرابة 10% من الأطفال المولودين بمرض نقص الدم المنجلي توفوا خلال السنوات الأربع الأولى من عمرهم، ويموت كثيرون منهم حتى قبل تشخيص حالتهم.
 
في أواخر ثمانينات القرن الماضي، بدأ الأطباء في إدراك أن مجرد إعطاء طفل حقنة بنسلين بمقدوره تغيير ذلك كله. وتوصلت دراسة ضخمة نشرت في دورية «نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسين» عام 1986 إلى أن الأطفال المصابين بأنيميا الدم المنجلي - أكثر صور المرض شيوعا وخطورة - الذين بدأوا تناول مضادات حيوية في سن 4 شهور، كانوا أقل احتمالا لأن يموتوا بسبب بكتيريا المكورات الرئوية (نيموكوكس) pneumococcus، وهي عدوى بكتيرية تصيب الأطفال في الغالب بالمرض، عن أولئك الذين لم يحصلوا عليها.
 
وأوضح د. لانيتا بي. جوردون، المسؤول الطبي الأول عن الاتحاد الأميركي لمكافحة مرض نقص الدم المنجلي: «كان هذا أهم علاج أثر في مسار المرض.. إنه بسيط ورخيص ومتوافر بسهولة».
 
غير أن وجود العقار لم يكن كافيا، فمن أجل إنقاذ الأرواح، كان ينبغي البدء في حقن المريض بالبنسلين منذ سن مبكرة؛ لأنه في معظم الحالات عندما يصل الطفل للسن التي يتم عندها تشخيص المرض وتظهر أعراضه يكون الأوان قد فات. وقال جوينر: «وقد خلق ذلك إدراكا بأنه حال النجاح في تشخيص المرض فور الولادة، فإننا ربما ننجح في التصدي له».
 
رصد سريع للإصابات وعليه، شرعت الولايات في تمرير قوانين تلزم تفحص جميع المواليد حديثا لاكتشاف الإصابات بنقص الدم المنجلي قبل أن يغادروا المستشفى.
 
وأوضح د. جورج آر. بوشانان، مدير المركز الشامل لمكافحة نقص الدم المنجلي في الجنوب الغربي في دالاس، أن «الهدف هو تحديد المصابين على الفور ووضعهم تحت الرعاية اللازمة». منذ عام 2006، تجري عمليات التفحص لحديثي الولادة بخصوص مرض نقص الدم المنجلي في جميع الولايات الـ50.
 
بجانب العدوى، شكلت السكتة الدماغية سببا رئيسيا في وفاة الأطفال بمرض نقص الدم المنجلي. وفي الواقع، قبل الألفية الجديدة، عانى نحو 10% من المرضى سكتة دماغية خلال العقد الأول من العمر.
 
وفي أواخر تسعينات القرن الماضي، توصل الباحثون إلى سبيل لتحديد الأطفال الذين يواجهون مخاطر الإصابة بسكتة دماغية باستخدام اختبار يعتمد على الموجات فوق الصوتية.
 
اليوم، يجري تفحص جميع الأطفال المصابين بنقص الدم المنجلي بصورة روتينية في سن الـ2، ومن يتم تحديد أنه يواجه مخاطرة الإصابة بسكتة دماغية تجرى له عمليات نقل دم شهريا، الأمر الذي يمكنه من تقليص مخاطر الإصابة بسكتة دماغية بنسبة 80% على الأقل.
 
الملاحظ أن مثل هذه التقنيات المرتبطة بالفحص والتدخل المبكر أسهمت في الحد بصورة بالغة من معدلات الوفيات بين الأطفال المصابين بنقص الدم المنجلي. اليوم، يتمكن نحو 90% من الأطفال المصابين بهذا المرض من الوصول لمرحلة البلوغ. إلا أنه طبقا لما يراه د. كواكو أوين فريمبونغ، بمستشفى الأطفال في فيلادلفيا، فإنه عندما يتعلق الأمر بمستوى جودة الحياة «نجد أننا لم نحقق تقدما كافيا».
 
وسائل علاجية 
يضيف د. كواكو أوين أن أنماط العلاج الجديدة لا تحمل إمكانية التخفيف من أعراض المرض فحسب، وإنما علاجه أيضا. وتم التوصل إلى أن عقارا يعرف باسم «هيدروكسيريا»، الذي جرى تصميمه في الأصل لعلاج السرطان، ينجح في تقليص عدد من المضاعفات المرتبطة بالمرض في نصف البالغين المصابين. وكشفت دراسات حديثة عن أن العقار له فوائد مماثلة بين الأطفال.
 
وقال د. جوينر: «يجعل العقار كريات الدم الحمراء تبدو أكبر وأكثر صحة وتتصرف على نحو أفضل. وينتقل بعض المرضى من حالة عجز كامل بسبب المرض إلى التمكن من الذهاب للمدرسة والعمل لبضعة شهور أثناء تناولهم العقار». وبدأ أطباء مثل د. جوينر في دراسة استخدام العقار على نحو روتيني مع الأطفال.
 
هناك أيضا أمل في التوصل لعلاج. على مدار الأعوام الـ20 الأخيرة، شفي 400 مريض على الأقل من مرض نقص الدم المنجلي من خلال زراعة خلايا جذعية مرتبطة بالدم، وهي عملية تستبدل خلايا صحية من متبرع بأخرى مريضة بنقص الدم المنجلي.
 
وأوضح د. جوردون أن «المشكلة لا تكمن في عدم وجود علاج، وإنما في أن العلاج المتاح لا يمكن استخدامه مع أعداد كبيرة». يُذكر أن هذه العملية تنطوي على مخاطرة كبيرة في أفضل تقدير، علاوة على تكاليفها الباهظة، كما أن ما بين 10% و15% فقط من المرضى مؤهلون لخوضها لتوافر متبرع متكافئ تماما مع بياناتهم الطبية.
 
وعلى الرغم من ذلك، يبقى هذا الأمر مصدرا لتفاؤل المرضى. مثلا، علمت جيوفانا أن شقيقها متبرع متكافئ معها، وتفكر أسرتها في إجراء عملية الزرع. ويعمل باحثون آخرون على علاج بالجينات كتوجه آخر نحو العلاج، لكن لا يزال التقدم بطيئا.
 
وقال بوشانان: «المستقبل مضيء، لكن لا أعتقد إمكانية استخدام العلاج الجيني أو زرع خلايا جذعية مع أعداد كبيرة من المرضى. أعتقد أن الجهود الحالية ستنجح في تطوير أنماط علاج غير مكلفة وصديقة للمستخدم تحول دون تسبب الخلايا في الضرر الذي تسببه الآن».
 
في الوقت الراهن، ترى والدة جيوفانا، فيفيان بولي، أن الجزء الأصعب من الأمر هو غياب اليقين. وقالت: «في لحظة أرى جيوفانا تلعب، وفي اللحظة التالية أجدها تتلوى من الألم، ولا أجد ما يمكنني عمله لمساعدتها.. إنه أسوأ شعور قد يتعرض له أب أو أم».