رحيل إرفينج بن رائد فن تصوير الموضة

إرفينج بن رائد أول من أزال الفارق بين الفن والتصوير التجاري، وفي الصورة مجموعة من أعمال المصور العالمي إرفينغ بن رائد فن تصوير الموضة
إرفينج بن رائد أول من أزال الفارق بين الفن والتصوير التجاري، وفي الصورة مجموعة من أعمال المصور العالمي إرفينغ بن رائد فن تصوير الموضة

توفي رائد فن تصوير الموضة الفنان إرفينج بن، وهو المصور الذي استطاع بحساسية بالغة أن يبتكر أسلوبا بصريا مميزا تمكن من تطبيقه على نطاق واسع من الأشياء مثل أثواب المصممين، أعقاب السجائر، وقوارير منتجات التجميل، وقد أصبح الكثير من تلك الصور حاليا من أشهر الصور التي تقتنيها متاحف الفن العريقة.


توفي هذا الفنان الرائد عن عمر يناهز الثانية والتسعين، يوم الأربعاء قبل الماضي، في شقته بمدينة نيويورك، وفقا لأخيه مخرج الأفلام، آرثر بن.

بدأ بن العمل في مجلة «فوج» في عام 1943 وأصبح واحدا من المصورين التجاريين الأوائل الذين يستطيعون إزالة الفارق بين الفن والتصوير التجاري.

وكان يقوم بذلك من خلال استخدام نفس التقنيات، بغض النظر عن طبيعة الشيء الذي يصوره، فكان يعزل موضوع التصوير، ويؤسس عملا من الكمال الفني من خلال عملية الطباعة.

ويعتبر النقاد أعماله الفنية أيقونات وليست مجرد صور، فكل عمل من أعماله يتجاوز أهمية الشخص أو الشيء الذي تم تصويره.

يقول فيليس بوسنيك، الذي كان يعمل مع بن في مجلة «فوج»، في حوار لـ«نيويورك تايمز»: «لم يكن أسلوبه واضحا أبدا .. كان يجعلنا نذهب إلى أبعاد أعمق مما نتصور باحثين عما وراء التفسيرات الواضحة لإحدى اللوحات لكي نكتشف في كل مرة شيئا جديدا فريدا، وكان بن يتمتع بذكاء عظيم يتجلى في أعماله».

لقد كان بن دقيقا في عمله، لا يثق في كمال الجمال، وهو ما كان يضيف توترا لصور العارضات، ولوحات الطبيعة الصامتة وصور الأشخاص كذلك.

تظهر أشهر لقطاته التي نشرت بمجلة «فوج» في الخمسينات إحدى العارضات التي تنظر إلى الجانب الآخر من خلال غطاء للوجه، كما لو أنها ليست مستعدة لالتقاط صورة مقربة لوجهها، وقد أصبحت الخامات الفاخرة والظلال والأضواء الكثيفة من مميزات أعمال بن.

إعلانات منتجات التجميل: من أشهر أعمال بن، تلك الصور المتعلقة بإعلانات مواد التجميل التي التقطها لـ«كلينيك»، والتي كانت تظهر في المجلات منذ 1968، فقد مثلت كل صورة من تلك الصور عملا متوازنا من قوارير كريمات الوجه، وزجاجات قابض المسام، وقوالب الصابون، وكل تلك الأشياء مرتبة بحيث تبدو وكأنها على وشك السقوط، وقد التقط تلك الصور من مدى قريب، موحيا بالتوازن الأبدي لعلب الصابون في صور فن البوب الشهيرة.

وكان من الغلاة في السعي للكمال، فكان كثير السفر حاملا الاستديو الخاص به إلى أقصى أطراف الأرض، كي يصور عارضات من البيرو في الملابس القومية، أو امرأة مغربية محجبة، أو رجال الطين في غينيا الجديدة، وقد نشر بن الكثير من تلك الصور في كتبه، إلى جانب صوره الراقية.

وعلى الرغم من تقديره الواضح للفن والحرفة الكامنين في الملابس الجميلة، فإنه كان يقف في مواجهة العالم صعب المنال الذي تمثله تلك الأثواب.

ولكي يهرب من ذلك، أو ربما لكي يظهر احتجاجه عليه، اتجه في الستينات إلى تصوير أعقاب السجائر المفتتة والأنقاض الموجودة في الشوارع، فكان يلتقط الصور لأعقاب السجائر بنفس التقنيات التي كان يصور بها أثواب أشهر المصممين، من خلال اللقطات المقربة التي يحددها الجرافيك قبالة خلفية بيضاء، ثم كان يطبع النيجاتيف على «بلاتينيوم بالاديوم» وهي عملية كانت دقيقة ومكلفة في الوقت نفسه، كما أنها تتطلب إعادة طباعة «النيغاتيف» على قطعة واحدة من الورق لكي تصنع عمقا وثراء استثنائيين للوحة.

وقد اكتشف متحف نيويورك للفن الحديث قيمة صور أعقاب السجائر في 1975، ووصف الكثير من النقاد الذين كانوا معترضين على عرض أعمال مصور للموضة في متحف للفنون أعماله بن بأنها أعمال فارغة.

وقد اندلع جدال مماثل لذلك خلال عام 1977 في متحف فن «متروبوليتان» بنيويورك، بعد عرض صور بن لأنقاض المدنية.

ولكن النقاد بعيدي النظر احتفوا بقدرة بن على تحويل الأنقاض إلى فن، وذلك على الرغم من أن التناقض في أعماله أثار حفيظة البعض.

فقد كتبت مجلة «أتلانتيك» في عام 1985 خلال عرضها لأعماله في متحف الفن الحديث بنيويورك عام 1984: «لأعمال بن إغرائها، ولكنه كان يعزز جمالها الذاتي بطريقة جعلتها باردة وغير إنسانية».

وقد استمر بن في تصوير ما يشاء، رجال ملائكة التلال الذين يرتدون الجلد والكروم، الحرفيين الأوروبيين في ملابس العمل، الطهاة الأفارقة والريش الذي يشتهرون به، أشهر الفنانين والمؤلفين، وكان الجميع يتلقون نفس القدر من الجهد.

ويقول كولن وستربك رئيس قسم الصور الفوتوغرافية السابق في معهد الفن بشيكاغو في حوار مع «نيويورك تايمز» في عام 2003، الذي يقتني أكبر مجموعة من أعمال بن: «لم يكن يهتم بالفارق بين ما هو تجاري وما هو فني، فكان يؤمن بأن التصوير هو وسيط جماهيري متاح للجميع، وقد استطاع بعض العباقرة مثل بن استعادته».

وكانت تلك النزعة المختلفة موجودة في الأعمال الأولى لبن، فبدءا من عام 1984، وبعدما صور أحد أثواب مصمم شهير لصالح مجلة «فوج»، التقط بن 70 صورة لعراة تتسم أجسادهم بالبدانة وكثرة الانحناءات. وبعدما انتهى من تصوير تلك المجموعة في عام 1950 تزوج بعارضة الأزياء شديدة النحافة ليزا فونساجريفس، التي ظهرت في كثير من الصور التي التقطها للمجلات قبل زواجهما.

وكانت صور العرايا الشهوانية هي آخر انحرافات المصور الأعزب، كما قال بن بعد ذلك.

وبعد أن توفيت زوجته في عام 1992، صنع سلسلة من البورتريهات الصغيرة لنفسه، التي كانت تظهر لقطة مقربة لوجهه وهو ممزق ومحطم بما يشبه لوحات التكعيبيين.

فتقول المؤرخة الفوتوغرافية، ديانا إدكينز، المديرة السابقة لقسم التصوير الفوتوغرافي في منشورات «كوندي ناست»، التي تشمل «فوغ»: «لقد كانت تلك الصور تعبر عن الحالة التي كان يشعر بها، فقد استمرت رومانسية بن طوال الفترة التي كان يعيش فيها مع ليزا».

وقد عرض بن لوحات العراة لأول مرة في روبينيسك في عام 1980 باعتبارها «أجساد دنيوية» في قاعة عرض «مارلبورو» بنيويورك، ثم عرضهم متحف «متروبوليتان» للفنون في نيويورك مرة أخرى عام 2002.

وفي أعماله الأولى، وطوال فترة الخمسينات، لم يستخدم بن سوى عدة جمادات، مثل كأس مارتيني، براد شاي، أو مقعد مرتفع، وكان كل منها قطعة فنية كلاسيكية أصيلة، ثم بعد ذلك تخلى عن الأثاث والتزم بوضع عارضاته أمام خلفية بيضاء أو رمادية صاخبة.

وكان ما يبعث الحياة في هذه البورتريهات هو الأشخاص الذين كان يلتقط لهم الصور، فقد كان بن قادرا على التقاط الزوال الإنساني برقة بالغة.

لقد طور بن أسلوبه المميز في نفس الوقت الذي كان فيه معاصره ريتشارد أفيدون يحقق النجاح في مجلة «هاربرز بازار»، فكان أفيدون يحول الشوارع إلى استديو خاص به حيث كان مولعا بالحركة والتعبير، بينما كان بن، وفقا لما قاله روساموند بارنيير، الناقد المعجب بأسلوب بن: «يضفي على السكون شاعرية».

وبعدما انضم أفيدون إلى بن في مجلة «فوج» في أوائل الستينات، بدأ بن «يدرك أن ما يريدونه ببساطة هو التقاط صورة جميلة ولطيفة ونقية لامرأة شابة وجميلة»، وفقا لما قاله بن لصحيفة «نيويورك تايمز» في عام 1991 بشأن مجلة «فوغ».

وأضاف: «لقد بدأت أقوم بذلك، وعندها أدركوا قيمتي، وأصبحوا ينشرون لي ما بين 200 إلى 300 صفحة في العام الواحد، وحتى ذلك الوقت كنت أحاول التقاط صورة، ثم بدأت أحاول أن أصنع سلعة، وهذا ما كنت أفعله في مجال تصوير العارضات منذ ذلك».

ويقول الأشخاص الذين عملوا مع بن إن الأمر لم يكن بهذه البساطة، فيقول بابس سيمسون، المحرر السابق بمجلة «فوج» في حوار بمجلة «فانيتي فير» عام 1990: «هناك القصة الشهيرة التي التقط فيها بن صورة لليمونة، فمبدئيا، كان علينا شراء 500 حبة ليمون لكي يختار الليمونة الأكثر ملائمة، ثم التقط نحو 500 صورة لليمونة حتى حصل على اللقطة الملائمة»، وكانت النتيجة تستحق، فيقول ألكسندر ليبرمان، رئيس بن في مجلة «فوج»: «إن الصورة التي التقطها بن ستظل دائما صورة عظيمة».

الذوق المتطرف: لقد كان إرفينج بن الرجل الأنيق ذو الصوت الخفيض معروفا بأنه دافئ وحسن المعشر، ولكن ذوقه المتطرف أضاف إلى خصائص شخصيته.

فقد كان لسنوات طويلة يرتدي الجينز الفاتح، وقميصا قطنيا لونه زيتي وحذاء رياضيا وذلك سواء كان ذاهبا إلى التقاط الصور، أو حتى خلال افتتاح أحد المعارض.

وتضيف إدكينز: «لقد كان زيه هو طريقته في أن يقول: ربما أكون ملك تصوير الموضة ولكنني لن أقوم بهذا الدور».

فقد كان عالمه الداخلي يتمحور حول الأفكار الجديدة، فقد كان بن خبيرا بالخمور والكاميرات المتطورة، والعدسات المتطورة، وتقنيات الطباعة القديمة، وقد صمم بعض معداته بنفسه كي يحصل على أعلى قدر من التحكم في الضوء الذي يسقط على الأشياء التي يصورها.

يقول بن إن التغير المستمر للموضوعات التي يصورها كان يغذي خياله، حتى أن أكثر الأسابيع نجاحا بالنسبة له كان ذلك الأسبوع الناجح في عام 1950، الذي انتقل خلاله من تصوير النحات الإيطالي ألبرتو جياكومتي إلى تصوير الجزارين الفرنسيين إلى تصوير عارضات الأزياء اللائي يرتدين أحدث صيحات الملابس الفرنسية وذلك كان يحدث في نفس الاستديو.

وقد حصل متحف «جيه بول جيتي» على مجموعته التي تتكون من أكثر من 250 صورة للخبازين وغيرهم من أصحاب الأعمال الصغيرة، وسيتم عرضها خلال يناير القادم.

وقد قال بن عام 1991 في حوار أجرته معه صحيفة «نيويورك تايمز»: «بالنسبة لي كان الأمر أشبه بوجبة متوازنة، فكان تصوير الجزارين خلال عملي يغذي عملي في تصوير عارضات الأزياء».

فتقول جين موكش، المدير الإبداعي لـ«كلينيك»، في حوار أجري معها عام 2002 لصالح صحيفة «ستريت تايمز» في سنغافورة: «لم يتوقف أبدا عن إدهاشي، فقد كنت أشعر وكأنني إحدى المعجبات اللائي تتحدثن إلى بيكاسو».

وبخلاف «كلينيك» كان بن يلتقط صورا إعلانية لـ«شانيل» ولمصمم الأزياء الياباني الشهير إسي مايكي لسنوات طويلة.

على الرغم من أن الأمر قد استغرق ثلاثة عقود، فإن معظم أعماله تم تقديرها بعد ذلك واعتبارها فنا. يقول ستيفين وايت، تاجر الصور الفوتوغرافية، الذي أقام أول معرض له في لوس أنجليس لأعمال بن في عام 1978: «لقد استطاع بن إزالة الفارق بين الفن والتصوير التجاري».

وفي ذلك المعرض كانت أغلى الصور تباع بسعر 1500 دولار، وهي الصور التي أصبحت بعد ذلك بعشرين عاما تباع بمائة ضعف ذلك الرقم.

ولد بن في 16 يونيو 1917 في لينفيلد بنيوجيرسي لأب صانع ساعات وأم تعمل ممرضة، ثم نشأ في فيلادلفيا، وأصبح أخوه الأصغر آرثر مخرجا سينمائيا ناجحا من خلال فيلم «بوني وكلايد» في عام 1967.

كان إرفينج يحلم بأن يصبح رساما، وقد تخرج في مدرسة متحف فيلادلفيا للفن الصناعي في عام 1938. ثم انتقل إلى مدينة نيويورك وأصبح مديرا لتصوير بـ«ساكس فيفث أفينيو»، ولكنه استقال بعد 4 سنوات كي يتمكن من السفر إلى المكسيك التي قضى بها عاما في العمل على لوحاته، ولكنه قرر بعدها أنه ليس بارعا فيه.

وفي عام 1943، قام ليبرمان بتعيين بن ليصمم لقطات غلاف لمجلة «فوج» من خلال اللقطات التي التقطها المصورون، ولم يكن بن راضيا عن النتائج، وفي النهاية طلب منه ليبرمان أن يلتقط الصور بنفسه.
وعن ذلك قال بن في حوار أجرته معه مجلة «فوج» في 2007: «في ذلك الوقت، لم أكن أفرق بين عارضي أزياء بلينسياجا ولاعب البيسبول».

وكانت أولى صوره في مجال التصوير المتعلق بالموضة تتكون من لقطة طبيعة صامتة مؤلفة من وشاح، وقفاز، وحقيبة من الجلد، وليمون وبرتقال، وأحجار التوباز، وكانت تلك أول لقطة طبيعة صامتة تتصدر غلاف المجلة، وقد نشرت في أكتوبر (تشرين الأول) 1943، وبعد ذلك نشر بن أكثر من 150 غلافا للمجلة.

ومن جهتها، قالت أنا وينتور، رئيس تحرير المجلة، في عدد يوليو 2007، الذي صدر تكريما لبن بمناسبة بلوغه عامه التسعين: «لقد كان وجوده في المجلة كل شهر تكريما لزملائه الأصغر وإذلالا لهم في نفس الوقت».

وقد ترك بن نيويورك بعد ذلك وانضم كمصور إلى صفوف الأميركيين في ميدان المعركة خلال الحرب العالمية الثانية، وسافر إلى الهند كجزء من مهنته، وقد استمرت حياته من الأسفار بعد ذلك.

ومن أجمل كتب بن التي يصل عددها إلى اثني عشر «العالم في حجرة صغيرة» 1974، الذي يعرض بورتريهات لرجال من القبائل في أفريقيا وغينيا الجديدة.

ولم يتخلص بن أبدا من مشاعره المضطربة تجاه أوهام الموضة، فقد ارتقى بالتصوير المتعلق بالموضة إلى مكانة الفن إلا أنه مع ذلك كان ينظر إليه بتعالي.

وعندما أصبح في السابعة والثمانين من عمره أكمل كتاب «مذكرات عشوائية» الذي صدر في 2004، الذي كان يتضمن نماذج أولى من لوحات مشهورة، وصورا تظهر عليها أماكن التعديل.

وكان الهدف كما قال في مقدمة الكتاب أن «يرصد التاريخ في لقطة فوتوغرافية في أقل انعكاساته أهمية وهي المسودات».

لقد كانت آخر لوحاته لمجلة «فوج» هي لوحة طبيعة صامتة لثمرات موز هرمة نشرت في أغسطس، وبخلاف أخيه، رزق بن بابن اسمه توم وحفيدة اسمها ميا.