لغة الورود تسيطر على الأزياء والجواهر

إن تغير الفصول والمواسم، الإضاءة، الأحجام ثم الألوان كلها عناصر أساسية لتكتمل صورة حديقة غنّاء، لكنها أيضًا العناصر نفسها التي تحتاج إليها الموضة، الأمر الذي يودي بنا للقول إن القواسم المشتركة بين المجالين أكبر مما كنا نتصور رغم اختلاف الأدوات. وربما هذا ما تنبه له مصممون من أمثال إيف سان لوران، كريستيان ديور، إلسا سكاباريللي وكوكو شانيل وغيرهم منذ زمن.


ومع ذلك لا يمكن القول إن الفضل في تلاقح المجالين، أو التنبه إلى قواسمهما المشتركة، يعود إلى هؤلاء؛ فهناك لوحات فنية من القرن الـ17 وعصر النهضة الإيطالية تؤكد بأن الــورود زيـــنت فســـاتــــين أطفال ونساء فيما بعد، لا سيما في العصر الفيكتوري الذي سجل عشــــقا عجيبا لزهرة الكاميليا.

من جهة أخرى، فإن من أهم مواصفات المصمم أن يتحلى بالرومانسية، أو على الأقل يفهم شاعريتها، وإلا فإنه يجد صعوبة في التعامل مع المرأة، فمن لا يتـــقن لـــغة الــــورود لا يعرف كيف يخاطب المرأة أو يمتلك قلبها.

هذه الرومانسية قد تتجلى في تصاميم منسدلة أو أقمشة أنثوية أو باقات من الورود مطرزة أو مرسومة على فستان أو تنورة وغيرها.

معظم المصممون المعروفون، بغض النظر عن شخصياتهم، من "كوكو شانيل"، "إيف سان لوران"، "إليسا سكاباريللي"، وطبعا "كريستيان ديور" و"جون غاليانو" وهلم جرا، عشقوا الورد واستعملوه أحيانًا كريشة لرسم لوحات من "الموسلين" أو "الأورغنزا".

 هذه الصفة الرومانسية التي يُفترض أن تلتصق بشخصية المصمم، هي التي جعلت البعض يشكك في مدى مناسبة اختيار البلجيكي راف سيمونز في دار "ديور" عندما تم تعيينه منذ أربع سنوات تقريبا، فهو ينتمي إلى المدرسة البلجيكية المعروفة بميلها إلى القليل والعملي، فضلا عن أنه درس التصميم الصناعي.

الشك الذي قوبل به تعيينه جعله يسارع بالدفاع عن نفسه حينذاك، ملمحًا إلى أنه لا يفتقد إلى الرومانسية لكن بطريقته.

طريقة عبر عنها بتطريز بتلات ورود صغيرة على تنورات وفساتين، لكن بتزيين أماكن العرض بآلاف الورود التي كانت تغطي جدران متحف النحات "رودان" حيث نظم العديد من عروضه، والطريف أن علاقة الفنان أوغست رودان بالورود معروفة، حيث سبق وقال إنها تتحاور مع الفنانين من خلال "تمايل سيقانها وتفتح بتلاتها بألوان تكاد تُغني".

ورغم أن لغة الورود تتنوع، والموضة تفتح الباب للاختلاف والتعبير المجازي، فإن تأثيراتها النفسية والجمالية واحدة، سواء تعلق الأمر بالعطور أو الجواهر والساعات أو الأزياء والإكسسوارات. فنفس المرأة مفتوحة على أي باقة مصوغة بترف وفنية.

في إحدى لقاءاتها السابقة صرحت كارولين شويفيليه، الرئيس المساعد والمدير الإبداعي في دار "شوبارد" للجواهر: "من هي المرأة التي لا تحب الزهور، خصوصًا إذا كانت ستمتلك زهرة من الماس ستبقى معها للأبد ولن تتعرض للذبول لمدى الدهر؟". كارولين ليست وحدها التي عانقت هذه الموجة، فمعظم صناع الساعات والجواهر ركبوها للوصول إلى قلب المرأة، ومن تم تحقيق الربح.

دار "بياجيه" واحدة من هؤلاء، بالنظر إلى إصداراتها في السنوات الأخيرة. حجتها أن مؤسسها، إيف بياجيه، كان يستمد سعادة كبيرة وسكينة نفسية حين يعمل في حديقته يشذب نباتاتها أو يزرعها ويقطف ثمارها، إلى حد أن وردة سُميت على اسمه في جنيف "وردة إيف".

فالأحجار تمثل بالنسبة للجيولوجيين وصناع الجواهر ما تُمثله الزهور لعلماء النباتات، وما باتت تُمثله للعاملين في الموضة أيضا، من منطلق أنها "تُخصب الخيال"، ولا تقتصر على تحسين المزاج والنفسية حسب رأي المصمم كريستيان لوبوتان الذي قال في كتابه الأخير إن حديقته الخاصة "تسمح لي بأن أرى مزيجا من الألوان والجمال".


لكن لوبوتان ليس وحده الذي يعترف بقوة الورود وتأثيراتها على المزاج والخيال، كما أنه ليس الوحيد الذي يغرف من جمالها وألوانها، وعروض الأزياء تشهد على ذلك منذ القرن الماضي إلى اليوم.

كما أن هناك عدة روايات موثقة حول أن السيد كريستيان ديور والآنسة كوكو شانيل عشقا الورود بشكل لم يتجسد في حدائقهما فحسب، بل أيضًا في أعمالهما. الأول كان يزرع ويشذب حديقة بيته بغرانفيل بنفسه أحيانا، وغني عن القول إنه استقى منها عطوره، وهو ما تعود إليه الدار إلى اليوم. أما الثانية، فكانت تشرف على الجنائني ليُنفذ ما تريده ولا تستطيع أن تقوم به بنفسها، إما خوفا على أظافرها أو لترفعها عن القيام بأعمال يدوية. وليس غريبا أن تبقى الدار وفية لمؤسستها، من ناحية اهتمامها بالأزهار، وعلى رأسها زهرة الكاميليا، التي أصبحت لصيقة بها، تظهر في فساتينها وإكسسواراتها، كما تظهر في ساعاتها وجواهرها.

فقد زينت أخيرا قرص ساعة "مادموزيل بريفيه" على سبيل المثال فضلا عن أقراط الأذن وغيرها. وإذا كانت وردة بياجيه تلعب على التصوير الثلاثي الأبعاد والخدع البصرية، فإن زهرة الكاميليا من شانيل أشبه بلوحة من الفن الانطباعي.


إيف سان لوران أيضًا كان يعشق الطبيعة ولعبت دورا مهما في حياته، فقد كان كلما أثقلت كاهله الضغوطات النفسية، يتوجه إلى مراكش ليحتمي بين أحضان حديقة "ماجوريل" ويتغذى على نخيلها ورائحة ياسمينها. لحسن الحظ أن القصة لم تقف عند هؤلاء، وامتدت خيوطها إلى اليوم. الفرق أن جرعاتها زادت أحيانًا لتتحول إلى ترجمة حرفية بأبعاد ثلاثية تفتحت بشتى الألوان والأشكال وفتحت النفس عليها. فقد تابعناها في عروض كل من "غوتشي" و"فالنتينو" وإيلي صعب وجيامباتيستا فالي و"دولتشي أند غابانا" وغيرهم.

معظم هؤلاء أخذوا الطبيعة إلى مرحلة جديدة لا تكتفي بالقليل ولا تسعى إلى التناغم الكلاسيكي، وفي كل الحالات تنجح في خلق تأثير يدغدغ الحواس ويُشعر الناظر بسعادة عارمة وهو يتابعها، لأن الفرق بينها بالأمس واليوم أنها اكتسبت إيقاعا بنغمات "روك أند رول" أنقذها من أن توصف بـ"دقة قديمة".