الجبن «العربي» .. أكثر من يتقن صنعه نساء المغرب

يوجد في المحلات التجارية والأسواق الممتازة، مئات من أنواع الجبن، الذي يختلف من حيث الطعم والنكهة والمذاق، ويسوق تحت أسماء تجارية عديدة، مثل «التشدير» و«الموزاريلا»، وغيرهما من أنواع الجبن الطري أو القاسي، الأبيض أو الأصفر، التي تشتهر بها دول لها تاريخ طويل في هذه الصناعة، مثل فرنسا، ايطاليا، هولندا، وأميركا.


لكن وعلى الرغم من وجود هذا التنوع الهائل في الأجبان المصنعة والمقدمة في علب وأغلفة جذابة، لم تستطع القضاء على أنواع من الجبن البسيط المصنوع من حليب الأغنام تحضره النساء في قرى الشمال المغربي يسمونه الجبن «العربي» او «البلدي»، لتمييزه عن منافسه الجبن «الرومي» أي المنتج في المصانع.

صبيحة أيام السبت والأحد والخميس من كل أسبوع، تغادر النساء منازلهن في القرى في اتجاه مدينة طنجة، حيث يقطعن بضعة كيلومترات على متن وسائل النقل التي تربط المدينة بالقرى المجاورة، أو على متن دوابهن، ليأخذن مكانهن في الأسواق الأسبوعية في عدد من أحياء المدينة، ويعرضن بضاعتهن على الرصيف، وهي مكونة من البيض البلدي، النعناع، الكزبرة، بعض الخضر الطرية، والفواكه الموسمية، التي يزرعنها بكمية قليلة في حقولهن الصغيرة، لان معظم قرى الشمال المغربي، ونظرا لطبيعتها الصخرية، ليست بها أراض فلاحية كبيرة.

ويشكل الجبن احد المنتوجات الغذائية الأساسية التي تحملها النساء معهن الى السوق، لمعرفتهن المسبقة بأن سكان المدينة في انتظارها بلهفة، لان كثيرا من الناس أصبحوا يقدرون قيمة الغذاء الطبيعي الخالي من أي مواد كيميائية أو ملونات ومواد حافظة.

وكما ان للشركات أساليب ذكية لجذب الزبائن، فهؤلاء النسوة أيضا يستخدمن فطرتهن وذكاءهن لضمان نفاد بضاعتهن، والعودة الى القرية ببعض النقود، او بكمية من المواد الغذائية التي لا تتوفر في القرى، او ببعض الملابس والأحذية لهن ولأطفالهن.

فأول ما تحرص عليه هؤلاء القرويات، هو المظهر، فلباس القرويات او «الجبليات» كما يطلق عليهن في شمال المغرب، مميز، فبعد ارتداء ملابسهن التقليدية المعتادة المتمثلة في القفاطين الطويلة، يلبسن قبعة واسعة مصنوعة من القش ومزينة من الجوانب بخيوط من الصوف الملون على شكل ورود، تحميهن من أشعة الشمس، ثم يلفن خصرهن بقماش من الصوف المخطط باللونين الأبيض والأحمر، يسمى «المنديل»، وهذا المظهر الفريد «علامة» مميزة على أن المرأة جبلية، أي قروية بالفعل، وبالتالي فالجبن المعروض للبيع أصلي، ومصنوع في البيت بالطريقة التقليدية، إلا أن المظهر الجبلي غير كاف لوحده، إذ تحرص كل النساء على أن تكون ملابسهن نظيفة جدا، حتى يطمئن الزبون بطريقة غير مباشرة على نظافة الجبن.

وتمر عملية إنتاج الجبن العربي كما وصفتها إحدى «القرويات» لـ«الشرق الأوسط»، بعدد من المراحل التي تبدو بسيطة وغير معقدة، تبدأ بحلب الأغنام للحصول على كمية وافرة من اللبن، يوضع في قدر كبير مصنوع من الخزف، حتى يبقى طريا وطازجا، ثم يصفى بقطعة قماش ابيض، ثم يضاف إليه قليل من الملح، ولكي يتحول اللبن الى مادة متماسكة ومركزة، تضاف إليه «المجيبنة»، وهي مادة طبيعية تستخرج من الأغنام بعد ذبحها، وهي عبارة عن كيس يستخرج من جوف الغنمة الصغيرة التي ولدت قبل أيام، ولم تأكل شيئا سوى حليب أمها، حيث يقطع الكيس ويجفف في الشمس لأيام، ثم يطحن، وبعد ذلك يحفظ ليستعمل كبودرة تضاف بكمية قليلة إلى اللبن فيترك لساعات حتى يتماسك، وبعد ان يصبح اللبن متماسكا نسبيا، تأتي المرحلة النهائية أي «التغليف»، إذ يصب في دوائر مصنوعة من ورق النخيل الأخضر، ويبسط داخلها حتى يتخذ شكلا دائريا، ثم يغطى بورقة نخيل خضراء للتزيين.

فيترك ليجف تماما، طوال الليل وبعدها يصبح جاهزا لحمله في الصباح الباكر داخل سلة من القش الى السوق.

يحفظ الجبن «العربي» بعد شرائه في الثلاجة لأنه سريع التلف، ويمكن تناوله في الإفطار مدهونا على الخبز مع القهوة أو الشاي، كما يضاف بعد تقطيعه الى مربعات صغيرة الى مختلف أنواع السلطات، نظرا لمذاقه اللذيذ وقيمته الغذائية.

الجبن «العربي» منتج من اختصاص النساء القرويات وليس الرجال، فهن المسؤولات عن جميع مراحل الإنتاج وحتى التسويق، ووراء هذا الأمر حكاية، إذ ان ما هو معتاد، حتى في يومنا هذا، هو أن دور نساء القرى يقتصر على الإنتاج، سواء تعلق الأمر بالمواد الغذائية مثل الزيوت النباتية، أو بالمنسوجات اليدوية مثل الزرابي والاغطية، أو غيرها من البضائع، بينما يتولى رجال القرية تسويقها في المدن.

أما نساء قرى الشمال، فاستحوذن على عملية التسويق لأسباب «سياسية»، ففي فترة الاستعمار الاسباني لمناطق الشمال المغربي، أوائل القرن الماضي، كان المستعمر يمنع رجال القرى من دخول المدينة، بينما يسمح للنساء بذلك، وبالتالي لم يكن أمام الرجل سوى التنازل عن عملية التسويق لصالح المرأة، لأن هذه التجارة الصغيرة كانت مصدرا أساسيا لكسب النقود.

وبعد ذهاب المستعمر تشبثت المرأة الجبلية على ما يبدو بحقها في تسويق المنتوجات التي تصنعها بيديها، ولم يمانع الرجل في ذلك، أو وجد نفسه مرغما على تقبّل الأمر الواقع.

ظل الجبن الجبلي صامدا من سنين في وجه الآلة الصناعية التي لم تستطع القضاء على هذا المنتج البسيط، بل أرغمت على الدخول معه في منافسة، إذ وقبل ثلاث سنوات، طرحت شركة مغربية متخصصة في صناعة الأجبان، جبنا طريا ابيض أطلقت عليه اسما تجاريا هو «جبلي»، يباع في علبة بلاستكية بيضاء، ولقي هذا الجبن نجاحا كبيرا، وأقبل الناس على شرائه، حيث يتميز بمذاق شبيه الى حد ما بالجبن العربي الأصلي، الذي تصنعه الجبليات بطرق تقليدية بسيطة، لكن يبقى لكل منتج زبائنه، والمقارنة غير واردة.