مجوهرات الأميرة فاطمة سبب ظهور جامعة القاهرة

وكأن سنوات التاريخ تأبى أن يستمر ظلم مؤسس مصر الحديثة وعائلته وهي صامتة، أو أن يتواصل وصفهم بصفات الخيانة والإسراف والاستئثار بكنوز مصر من دون أن ترد لهم بعض حقوقهم التي أضاعها ناهبو التاريخ. فما كادت تمضي شهور قليلة على عرض مسلسل «الملك فاروق» الذي أعاد الحنين لذلك العصر، حتى جاء دور الأميرة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل وقرة عين أبيها التي تردد اسمها مرات ومرات في الأسابيع الأخيرة، والسبب هو تلك الصلة الوثيقة بين جامعة القاهرة التي بدأت الاحتفال بمئويتها هذا العام، وبين تلك الأميرة التي أنجبها الخديوي إسماعيل من زوجته شهرت فزا هانم عام 1853.


وكانت فاطمة قريبة إلى قلب أبيها حتى أنه كان لا يتوانى عن تنفيذ مطلب لها. ودليل ذلك ما بناه لها من قصور كقصرها الذي كان في مواجهة شاطئ النيل عند المنطقة التي بنيَّ فيها كوبري قصر النيل، وآخر في بولاق الدكرور صار فيما بعد مبنى كلية الفنون التطبيقية، وثالث في منطقة الدقي تحول بعد وفاتها عام 1920 إلي المتحف الزراعي الذي لا زال قائماً حتى الآن. كما أنه احتفي بها عند زواجها بالأمير طوسون بن سعيد باشا عام 1873، حتى أن الكاتب الفرنسي دي ليون وصف فى كتابه «مصر الخديوي» مراسم زواجها بقوله: «تتقدم كآلهة من آلهات الأزمنة الماضية بمعيتها وجواريها، صعدت وأخذت تنثر عليهن خيرات ذهبية ضربت لتلك المناسبة فتعلق برؤوسهن، وكانوا قد أقاموا فى صدر تلك القاعة فوق منصة مرتفعة ثلاثة عروش مكسوة بالحرير الأبيض فجلست دولة الوالدة باشا أم الخديوي اسماعيل على عرش اليمين والأميرة أم العروس على عرش الشمال وجلست العروس وعلى رأسها تاج من الماس ثمنه أربعون ألف جنيه على عرش الوسط وكان لباسها من الحرير الأبيض الفرنسي الأغلى ثمناً، وكله مرصع بأنفس أنواع اللؤلؤ والماس وله ذيل طوله 15 مترا رفعته الجواري وراءها».

وبعيداً عن حالة الأبهة التي كانت تعيشها تلك الأميرة شأنها في ذلك شأن باقي أفراد العائلة المالكة، تميزت فاطمة بنت إسماعيل بين إخوتها بحب العمل الاجتماعي وشدة الارتباط بمصر وشعبها. ولعلَّ أبرز آثارها في هذا المجال جامعة القاهرة التي ساندت فكرتها منذ لحظة ميلادها عام 1906.

وعندما علمت الأميرة من طبيبها الخاص محمد علوي باشا بما يواجه الجامعة من مشاكل مالية تهدد المشروع بالفناء، سارعت بالتدخل حتى تضمن لها البقاء، حيث كانت الجامعة في ذلك الوقت لا تملك مقراً ثابتاً يتلقى فيه طلابها علومهم، حتى أنها كانت تنفق 400 جنيه سنوياً ـ وهو مبلغ ضخم بتقدير تلك الفترة الزمنية ـ على إيجار مبنى الخواجة «جناكليس»، وهو ذات المبنى الذي تحتله حالياً الجامعة الأميركية بميدان التحرير وسط القاهرة. ولتعلن الاميرة فاطمة تنازلها للجامعة عن مساحة ستة أفدنة ليبنى عليها حرمها، إلى جانب وقفها ريع 3357 فداناً و14 قيراطاً و14 سهماً من أجود الأراضي الزراعية في مديرية الدقهلية بمنطقة الدلتا. وبلغ وقف أرض الأميرة في تلك الفترة 4000 جنيه سنويا كانت تدخل كلها في إطار ميزانية الجامعة، وهو ما ضمن لها دخلاً مستقراً وثابتاً ضمن لها الاستمرار.

وعلى الرغم من كل تلك الأموال إلا أنها لم تكف لإتمام بناء باقي مشروع الجامعة التي كانت تتكلف في ذلك الوقت 26 ألف جنيه، فعادت الأميرة فاطمة من جديد لتتبرع للجامعة ولكن في تلك المرة كان التبرع ببعض قطع جواهرها الثمينة التي تولَّى بيعَهَا خارج القطر المصري لضمان الحصول على أعلى سعر لها طبيبُهَا الخاص وعضو مجلس إدارة الجامعة، الدكتور محمد علوي باشا.

وكما تقول وثائق الجامعة تضمنت قطع المجوهرات عقدا من الزمرد، يشتمل على قطع، حول كل قطعة أحجار من الماس البرلنت، كان في الأصل هدية من السلطان عبد العزيز لإسماعيل باشا. وأربع قطع موروثة من سعيد باشا كانت عبارة عن سوار من الماس البرلنت، تشتمل على جزء دائرى بوسطه حجر يزن 20 قيراطا حوله 10 قطع كبيرة مستديرة الشكل، الى جانب السلسلة التي تلتف حول المعصم، وكان مركباً عليها 18 قطعة كبيرة و56 قطعة أصغر منها حجما، وريشة من الماس البرلنت على شكل قلب يخترقه سهم، مركب عليها حجارة مختلفة الحجم. وعقد يشتمل على سلسلة ذهبية، تتدلى منها ثلاثة أحجار من الماس البرلنت، يزن أكبرها 20 قيراطا، بينما يقدر وزن كل حجر من الحجرين الصغيرين بنحو 12 قيراطا.

أما آخر قطعة مجوهرات فكانت عبارة عن خاتم مركب عليه فص هرمى من الماس يميل لونه إلى الزرقة. وبيعت تلك القطع بمبلغ 70 ألف جنيه مصري، ولتحتفل الجامعة في احتفال مهيب في الرابعة والنصف من عصر يوم الاثنين الموافق 3 جمادى الأول 1322هـ، الموافق 31 مارس(آذار) 1914، بوضع حجر الأساس لها على ذات الأرض التى وهبتها لها دولة الأميرة فاطمة. وقد كتب على الحجر الذي تم إيداعه باطن الأرض عبارة «الجامعة المصرية، الأميرة فاطمة بنت إسماعيل، سنة 1332 هـ».

ونثر حول الحجر طبقاً لوثائق الجامعة عدد من مختلف العملات المصرية المتداولة في ذلك الوقت، بالإضافة إلى مجموعة من الصحف المصرية الصادرة يوم الاحتفال، ونسخة من محضر وضع حجر الأساس وعليه توقيع الخديوي عباس حلمي الثاني، وصاحبة الدولة والعصمة المحسنة الكبيرة الأميرة فاطمة. وتلاهما في التوقيع دولة الأمير أحمد فؤاد باشا رئيس شرف الجامعة، ثم رئيس وأعضاء مجلس إدارتها.

وعلى الرغم من موقفها من الجامعة وبنائها، إلا أن الأميرة فاطمة لم تحضر حفل وضع حجر الأساس الذي تحملت تكلفته، حتى أن إدارة الجامعة نشرت إعلاناً فى الصحف المصرية حمل عنوان «نفقات الاحتفال بوضع حجر الأساس لدار الجامعة»، قالت فيه «أبت مكارم ربة الإحسان، صاحبة العصمة، ودولة الأميرة الجليلة فاطمة هانم أفندم، كريمة المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، إلا أن تضيف آية جديدة من آيات فضلها، فأمرت بأن تكون جميع نفقات الحفلة التي ستقام لوضع حجر الأساس لدار الجامعة، على حسابها. ونظرا لتنازل الجناب العالي بوعده بتشريف هذه الحفلة فقد أوصت دولتها بمزيد العناية بترتيب الزينة، مما يليق بمقام الأمير عزيز مصر. ومجلس إدارة الجامعة، لا يسعه تلقاء هذه المآثر العديدة إلا تقديم عبارات الشكر الجزيل، بلسان الأمة، على النعم الكثيرة التى أغدقتها صاحبة هذه الأيدي البيض في سبيل العلم، ويسأل الله أن يطيل حياتها، ويتولى مكافآتها عليها بالإحسان».

لم تنته تفاصيل القصة عند هذا الحد، حيث شهد حفلَ وضعِ حجرِ الأساس غناء زكي أفندي عكاشة، أمام الخديوي والضيوف، قصيدة قام بتأليفها أمير الشعر العربي أحمد شوقي بك، تغزلت هي الأخري بصنائع دولة الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل جاء فيها: «ولا يزال بيت إسماعيل مرتفعا، فرع أشم وأصل ثابت راس، وبارك الله فى أساس جامعة، لولا الأميرة لم تصبح بأساس، يا عمة التاج ما بالنيل من كرم، إن قيس بحركم الطامي بمقياس». ولتصبح الجامعة مشروعاً فكرياً لا في مصر وحدها ولكن في المنطقة العربية التي باتت الجامعة بالنسبة لها مقصداً للتعلم لكافة أبنائها.

وحتى بعد إعلان الملك فؤاد عام 1925 عزم الحكومة المصرية تطوير الجامعة الأهلية التي ألحق بها كليات الطب والعلوم والهندسة والتجارة والصيدلة، وتحويلها لجامعة شاملة حملت اسم جامعة فؤاد الاول بدلاً من الجامعة الاهلية، ظلت الوثائق شاكرة لتلك الاميرة التي لولا إيمانها بقيمة العلم ما كانت جامعة القاهرة اليوم تحتفل بمئويتها.