مصممون أزياء شباب يتلمسون طريقهم في باريس

مصممون جدد ظهروا على الساحة هذا الموسم، وهذا أمر طبيعي لأن المخضرمين والمؤسسين إما وافتهم المنية أو تقاعدوا أو اختاروا أن يجلسوا في المقاعد الخلفية ويتنفسوا الصعداء بعد ان ركضوا لعقود متتالية، موسما بعد موسم من دون هوادة، لا سيما ان رحى الموضة لا تتوقف عن الدوران ولا ترحم من يتأخر.


المصممون الجدد، أو الشباب، لا ينقصهم الخيال أو القدرات، ولا يحتاجون سوى إلى فرص ومساحة من الحرية ليثبتوا خطواتهم. لكن في الوقت الذي ظهرت فيه عدة فرص، اختلفت درجات الحرية المسموح بها من دار إلى أخرى.

التفسير أنه لا يعقل أن يطلق العنان لشاب، أو شابة، يفور حماسا بعد حصوله على فرصة العمر، فيعمد إلى تغيير كل ما بنته دار عريقة على مر السنين وينسف الثقافة التي بنيت عليها. وكما أظهرت التجارب فإن البقاء دائما لمن يحترم القديم ولا يتوه عنه.

فحتى جون غاليانو، مجنون باريس، وجون بول غوتييه، ابنها الشقي، ومع كل ما يتمتعان به من خيال وروح ابتكار، لم يستطيعا أن يبتعدا عن روح بيوت الأزياء التي يعملان بها.

الأول لدار «كريستيان ديور»، والثاني لـ «هيرميس»، ولهذا تراهما دائما يغرفان من الأرشيف يطوعانه تارة بلمساتهما، وتارة أخرى يترجمانه بلغة العصر. من المصممين الشباب الذي استقبلتهم باريس هذا الموسم، استيفان كورتزار، 23 عاما فقط، الذي فتحت له دار «إيمانويل اونغارو» أبوابها وكل جوارحها لعله يضخ فيها دما جديدا وحيويا بعد سنوات من التعثر. فمنذ أن تقاعد مؤسسها في عام 2004، تعاقب عليها أربعة مصممين إذا حسبنا كورتزار من ضمنهم، ولم ينجح أي منهم لحد الآن أن يعيد لها مجدها القديم. لكن ربما يتغير الوضع على يد هذا الشاب الذي قدم مجموعة مبشرة.

العرض الذي لم يشهد حضورا بهذه الكثافة منذ أكثر من عقد من الزمن، كان مزدحما بالفضوليين أكثر من المعجبين بالماركة، لكنه لم يخيب الآمال وأمتعهم بتشكيلة معقولة جدا، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنها البداية. ما يؤخذ عليها هو أنها بأسلوب ميامي، أكثر منها بأسلوب سان تروبيز، أي أنها تفتقد إلى لمسة رقي. تميزت بعض فساتين سهرة بثنيات وطيات تؤكد انه يعرف ما يريد، بينما جاء بعضها الأخرى معلقا بكتف واحد، إلى جانب معاطف ملفوفة حول العنق.

كل ما فيها أنيق ومريح للعين حتى ألوانها الباستيلية، لكنها مع ذلك تفتقد إلى ألوان «اونغارو» الحية والمتوهجة التي كانت من أهم العناصر التي صنعت اسمه. القادمة الجديدة إلى باريس هي أليساندرا فاشينيتي، وريثة اسم فالنتينو، الذي تقاعد في بداية هذا العام بعد 45 عاما من العطاء.

أليساندرا، التي تبلغ من العمر 35 عاما، عرفت كيف تتعامل مع اسم المؤسس بحذر ومن دون أن تحدث ضخة كبيرة قد تستفز زبوناته الوفيات لأسلوبه. ولا شك أنها تعلمت درسا قاسيا من تجربتها السابقة، عندما خلفت اسما كبيرا آخر، هو توم فورد بعد مغادرته دار «غوتشي».

التجربة لم تكن سهلة ولم تستمر طويلا، إذا انتقلت بعدها بفترة قصيرة لتعمل في دار «مونكلر»، لهذا فهي تعرف أنها لا تستطيع ان تكرر نفس الغلطة ولا مكان للفشل. كما تعرف جيدا أنها فازت بالوظيفة لأنها وعدت باحترام أسلوب المؤسس المتقاعد. وهكذا جاءت أول تشكيلة قدمتها تحت اسم «فالنتينو» تتنفس أسلوبه وتحاكي ألوانه وإن بتواضع شديد. فحتى مكان العرض غيرته واختارته متواضعا بالمقارنة.

فهي لم تعرض في القاعة الكبيرة في متحف اللوفر، بل في «باليه دي شايوه» الذي يعتبر اصغر، وكأن لسان حالها يقول بأنها لن تستطيع ان تخرج من شرنقة اسلوب فالنتينو، لكن على الأقل يمكن الابتعاد عن أجواء المقارنة الفجة، واخذ فرصة لكي تتلمس طريقها بالتدريج.

كل ما في تشكيلتها قدم الولاء له، بدءا من التايورات المفصلة إلى الفساتين ذات الكشاكش الكثيرة والمعاطف الواسعة، مرورا باللون الاحمر، ماركته المسجلة، في فستانين للمساء. لكن رغم اللمسة الناعمة والأنوثة الواضحة، إلا أنها جاءت باهتة نوعا ما، وتفتقد إلى تلك اللمسة التي تجعل امرأة فالنتينو تتميز من بين عشرات الأنيقات من دون جهد.

الشابة إيفانا اوماجيك التي تسلمت مقاليد الدار الفرنسية «سيلين» منذ عدة مواسم، لا تعاني من المشكلة التي وجدت أليساندرا فاشينتي نفسها فيها. فهي ليست مطالبة بأن تثبت نفسها لأي احد، ولا أن تتنافس مع اسم اكبر من اسم الدار، بعد ان وجدت لها أسلوبا خاصا بها منذ عدة مواسم. أسلوب يجمع بين العصري والسبور، أصبح لصيقا بها لحد يصعب تقليده أو مقارنته بغيرها.

كل ما في عرضها كان يضج بالتصميمات الرياضية، فحتى بعض الأقمشة كانت مشغولة بتقنيات عالية، لكن من كل طية ومن كل غرزة كانت تفوح رائحة أنثوية قوية. كما أنها أتقنت لعبة الطبقات المتعددة، بعضها كان على شكل كشاكش، والبعض الآخر مزجت فيه بين عدة أساليب في القطعة الواحدة.

اكبر مثال على هذا وأجمله، فستان سهرة باللون الأزرق جمعت فيه ما لا يقل عن ثلاث طبقات من الموسلين والشيفون، كل طبقة بأسلوب، فهناك المنسدلة بسخاء وبحرية ومنها البليسيه ومنها المفتوح من الجوانب ليبرز «طول نفسها»، فهذه أولا وأخيرا تشكيلة «سبور» بكل المقاييس.

في مقابل البداية الخجولة لكل من كورتزار وفاشينيتي، وثقة أوماجيك، لا يمكن ان نتجاهل الكبار ونصفق لهم ولإبداعاتهم التي لا تنتهي، والتي من الصعب على أي مبتدئ مهما كان موهوبا ان يتفوق عليها، بدليل ما يتحفنا به كل من كارل لاغرفيلد وكريستيان لاكروا في كل مرة.

كارل لاغرفيلد كعادته أدهش وأمتع ضيوفه في «الغران باليه» (القصر الكبير)، الذي لا يبعد عن جادة الشانزيليزيه بكثير، بنصبه أرجوحة كبيرة في وسطها علق عليها نماذج من القطع التي تحولت عبر السنوات إلى ماركات مسجلة لـ «شانيل». فقد كانت هناك الحقيبة المبطنة، وعطر «شانيل رقم 5»، وحذاء الباليرينا، وزهرة الأوركيد، وطبعا الجاكيت وعقود اللؤلؤ.

وإذا كان هناك أي شيء يمكن أن يتعلمه الصغار من هذا الرجل، فهو ذكاؤه في احترام إرث المصممة المؤسسة وضخها بلمساته العصرية بشكل لا يظلم أي أحد منهما. فروح الدار وثقافتها واحدة لم يقض عليها بمقصه ولم يحاول ان يطمرها لإبراز نفسه، ربما لأنه واثق من أن لا احد يمكن أن يتجرأ ويشكك في قدراته الإبداعية، التي تقفز من الوهلة الأولى من خلال تجديد في قصة التايور وطريقة تفصيله، أو في طول فستان ناعم والخامات العصرية التي يلعب عليها، أو بإضافة إكسسوار يحمل زيا بسيطا إلى أقصى درجات الفخامة والذوق.

أسلوبه السهل الممتنع كان دائما هو عملته الرابحة. للخريف والشتاء المقبلين، لم يتغير الأمر، فقد لعب على طول الجاكيت والتنورة، فجاءا طويلين نوعا ما، الأمر الذي لن يروق لكل الشرائح، لكنه كعادته تألق في فساتين السهرة التي لا يعلى عليها، من حيث حيويتها وروحها الشابة، التي لو عاشت الآنسة كوكو لحد يومنا هذا لابتسمت لها ابتسامة رضا وامتنان.

أما للنهار، فكانت الأزياء المغزولة بالصوف هي ورقته الرابحة، وبلا شك ستجد طريقها بسهولة إلى خزانة أي شابة، خصوصا أن الإكسسوارات زادتها روعة وحيوية، إذ أن لاغرفيلد كان حتما يريدها أن تدغدغ خيال الشابات بل وحتى المرأة الناضجة التي تتميز بروح طفولية، وإلا لماذا هذه الأرجوحة التي لولا الحياء لتسابقت الحاضرات لركوبها والتأرجح عليها؟.

كريستيان لاكروا، أيضا كان يضع نصب عينه امرأة تريد أن تلعب وتمرح وتستمتع بالحياة عندما عكف على تصميم هذه التشكيلة. فقد كان هناك الكثير من الريش والتفاصيل المعقدة التي تؤكد انه مايسترو يعرف أدواته جيدا، والكثير من الألوان المتوهجة والنقوشات المتضاربة، فهو دائما يذكرنا بأنه لا يحب اللون الأبيض، لأنه لون ميت بالنسبة له، ولهذا قلما يستعمله.

ما يحسب له في هذه التشكيلة أن رقعة زبوناته ستتسع لتشمل الصغيرات الثريات اللواتي يتنقلن من حفلة إلى سهرة مثل الفراشات التي لا تكل أو تمل. وإذا كان هناك شيء يؤخذ عليه فيها فهو محاكاتها للأزياء الراقية بشكل جعلنا نتساءل للحظات ما إذا كنا قد خلطنا بين المواسم.