للخريف والشتاء المقبلين .. ديور تعزف سيمفونية الألوان

عندما تلقي أية أزمة اقتصادية بظلالها على اسواق العالم، تكون النتيجة الحتمية هي تحلي الناس بالحيطة والتفكير عدة مرات قبل صرف مبالغ كبيرة على اي شيء يصب في خانة الترف، لذلك فإن التأثير يكون جليا على عالم الموضة، كونها إحدى وسائل الترف.


وإذا كان هذا صحيحا إلى حد ما على الاجواء التي خيمت على اسبوع الموضة بباريس في الاسبوع الماضي، من خلال الالوان الداكنة التي سادت معظم التشكيلات والتصميمات الهندسية الصارمة، إلا ان جون غاليانو، مصمم دار كريستيان ديور ارتأى ان يسبح ضد التيار، وان يغني على هواه بسيمفونية من الالوان المتوهجة، وكأنه يتحدى الأزمات ويصر على التفاؤل.

كل ما في عرضه كان سهلا وبعيدا عن التعقيدات، بدءا من تصميماته إلى الأسلوب المبطن الذي استعمله لتجاوز السحابة الاقتصادية الثقيلة. لم ير ان التقتير والقتامة هما الجواب، لكن في المقابل لم يخاطب في تشكيلته هؤلاء الفتيات الصغيرات اللواتي يتمتعن بنضارة الصبا ورشاقة البنيان، بل توجه إلى المرأة الثلاثينية وما فوق: امرأة مستقلة، مقتدرة وقادرة على صرف الآلاف على مظهر انيق يحرك بداخلها حلم الانوثة ويمنحها الإحساس بالاناقة. نعم فالوضع المالي حاليا لا يساعد على مغازلة الصغيرات. لكن على الرغم من أنها تشكيلة هادئة، تفتقد للإثارة المجنونة التي عودنا عليها، إلا انها عوضت غياب هذا العنصر بالاناقة السهلة والتصميمات الحالمة.

جون غاليانو وصف التشكيلة بأنها مفعمة بالتفاؤل، وبالفعل كانت كذلك، فقد حملتنا إلى حقبة الستينات من القرن الماضي، بكل ما تحمله من جماليات وتألق، سواء من حيث الالوان او التصميمات او الروح. فقد عاد فيها إلى ارشيف الدار في عهد مارك بوهان، التي تسلم مقاليدها بعد إيف سان لوران، وإلى ارشيف مجلة «فوغ» في هذه الفترة ايضا في الوقت الذي كانت ترأسها الأسطورة دايانا فريلاند. لهذا كانت هناك الكثير من التنورات المستديرة التي تظهر خصرا نحيلا إلى جانب تنورات مستقيمة مع جاكيتات قصيرة وواسعة. وربما تكون اكثر تشكيلة، لحد الآن، يغرف فيها غاليانو بشكل مباشر من معين الدار بعد ان حاول في السنوات الاخيرة ان يمزج بين اسلوب المؤسس، ديور، واسلوبه الخاص حتى لا يطغى الواحد على الآخر. كان ينجح مرات ويفشل مرات اخرى لان اسلوبه المتميز كان دائما يتسلل من خلال طية او فتحة او اكسسوار.

وهذا امر طبيعي وإن كان من اهم المشاكل التي تواجه اي مصمم يلتحق بدار عريقة لها اسمها ومكانتها، لان من شروط العمل أن لا يجنح إلى الابتكار إلى حد تطغى فيه بصماته ولمساته على تاريخها واسمها. فالمطلوب دائما هو حقنها بدم جديد وحيوية تواكب العصر من دون ان ينسى القديم وتقديم طقوس الولاء له في كل موسم. جون غاليانو، رغم ما يتمتع به من خيال خصب وميل إلى الجنون، لم يخرج عن هذه القاعدة، وكان يكتفي في احيان كثيرة على اطلاق العنان لجموحه من ناحية الإخراج والتنسيق والماكياج، لكن الجوهر بقي دائما «ديوريا».

في المواسم الماضية، مثلا، لعب على «دي نيو اللوك» الذي اطلقه مؤسس الدار، السيد كريستيان ديور في عام 1947 بعد الحرب العالمية الثانية وحقق به ثورة، من خلال جاكيتات مفصلة تعانق الخصر ثم تبتعد عنه تدريجيا لتغطي تنورات مستقيمة تلامس الركبة بالكاد، وكانت ترجمة غاليانو لها عصرية وفي الوقت نفسه تنطوي على الكثير من الاحترام لمبدعها الاول. لكن بينما كان التركيز في السابق على إرث الدار في نهاية الاربعينات وبداية الخمسينات، عاد غاليانو هذه المرة ومن باب التجديد، إلى ارشيفها في أواخر الستينات.

لم يكن اي واحد من الحضور يحتاج إلى عقل أينشتاين لمعرفة تأثر المصمم بهذه الحقبة، فقد كان واضحا من النظرة الاولى من خلال الماكياج الصارخ، خصوصا حول منطقة العين، وتسريحات الشعر المنفوخة واقراط الاذن المتدلية، بالإضافة إلى النقوشات الهندسية. هذا عدا عن هذا الكم الرائع من المعاطف والجاكيتات القصيرة، بعضها متسع وبعضها الآخر مفصل على الخصر، لكن أغلبها بثلاث ارباع اكمام والوان متوهجة بالحياة والفرح نسقها مع حقائب يد وأحذية من نفس اللون.

وعلى ما يبدو فإن المصمم رأى انها وصفة ناجحة فقرر عدم تغييرها، بل العكس اللعب عليها مرارا وتكرارا. الوصفة الناجحة هنا ان ترتدي المرأة زيا من نفس اللون من الرأس إلى أخمص القدمين ومع اكسسوارات بنفس اللون. كانت الفكرة ضربة معلم في تشكيلتها الراقية (الهوت كوتير) الأخيرة للربيع والصيف، لهذا ستبقى معنا للخريف والشتاء المقبلين ايضا. 

بلا شك لن نستطيع القول ان هذه التشكيلة هي أكثر ما قدمه غاليانو من ناحية الإثارة أو الفنية، لكنها الاكثر رومانسية وحنينا إلى الزمن الجميل، زمن أودري هيبورن، وغرايس كيلي وجاكلين اوناسيس وغيرهن من الجميلات، اللواتي ارتبطن في اذهاننا بالانوثة والاناقة والحياة المترفة. فرغم انها تشكيلة مبنية على وصفة بسيطة ومضمونة، إلا أن غاليانو نجح في حملها إلى مستوى عال من الرقي والتميز لدقتها وحرفيتها. ولأنها من مايسترو يتقن ادواته، لن يستطيع أي احد ان يتهمه بالإغراق في القديم من دون تقديم الجديد، لانه نجح فعلا في أن يحول القديم إلى طبق متبل ومشهي. وهذا ما سيجعلها تشكيلة تجارية وناجحة على حد سواء، لأنها تخاطب البراءة والرومانسية القابعة بداخل اية واحدة منا، سواء من حيث الالوان او التصميمات او الاقمشة والاكسسوارات، واللافت فيها هو غياب البنطلون تماما.

والحقيقة ان العديد من مصممي باريس اتفقوا مع غاليانو على تجاهل هذه القطعة للخريف والشتاء المقبلين، إذ كان هناك إسهاب في التايور المكون من الجاكيت الواسع والقصير الذي يستحضر صورة جاكلين اوناسيس، مع تنورة تلامس الركبة، إلى جانب الفستان بمختلف الاطوال، حسب المناسبة طبعا. فللنهار تميزت، عند ديورن بأنها مفصلة على الجسم بطول لا يتعدى الركبة، فيما جاءت فساتين السهرة طويلة ورائعة بتطريزات سخية في بعض الاجزاء مثل الاكتاف أو حواشي الاكمام واسفل التنورات، بشكل يحاكي ازياء الهوت كوتير.

أما فساتين الكوكتيل، فكانت رائعة تجمع بين البساطة والاناقة في الوقت ذاته. اللافت ايضا بعد سنوات من محاولة إبراز حقائب اليد من خلال الالوان الصارخة، الأمر الذي كان يغطي على جمال الازياء أحيانا، تحقيق توازن مريح بين الاثنين، فالازياء متوهجة وكذلك الاكسسوارات، وبالتالي أصبح بإمكان العين ان تتبع اي شيء تريده وتختاره، عوض ان تشعر بأن المصمم يحاول ان يغريها ويضعفها ولو بحقيبة، فحتى إذ لم تستطع اقتناء زي، سواء لان إمكانياتها لا تسمح او لأن مقاييس جسمها لا تساعد، فإنها تحاول اقتناء حقيبة تشعرها بالاهمية وبأنها لم تخرج من العرض من دون «حمص».