ربيع وصيف 2015 .. الموسم الذي تحول فيه النظري إلى واقعي

الهوت كوتير» بين العملية والحلم من أجل عيون الشابات
الهوت كوتير» بين العملية والحلم من أجل عيون الشابات

السؤال القديم عن مدى جدوى «الهوت كوتير» ودورها في وقت أصبحت فيه المرأة تتبوأ مراكز مهمة قد توفر لها المال الكثير وتحرمها من الوقت الكافي لكي تقوم بعدة بروفات تحصل فيها بعد أشهر من الانتظار على فستان فريد مفصل على مقاسها، لم يعد مطروحا أو مناسبا للواقع. 
 
وهذا ما ترجمه المصممون في تشكيلاتهم لربيع وصيف 2015، التي جاءت تتأرجح بين الحلم والفخامة من جهة، وبين العملية التي تخاطب النهار من جهة الثانية.
 
طبعا العملية هنا بمفهوم «الهوت كوتير» الفني والفريد وليس بالمفهوم المتعارف عليه، إذ إن التصاميم اكتسبت عصرية وحيوية تخاطب سيدة أعمال كما تخاطب سيدة مترفة ومرفهة بغض النظر عن عمرها أو بيئتها. 
 
صحيح أنها، أي «الهوت كوتير» لا تزال ترقص على نغمات مسرحية وفنية في بعض الحالات، إلا أنها لم تعد تجنح للسريالية أو الفانتازيا، التي كانت تجعلها في الماضي تبدو متجردة عن الواقع.
 
ومع ذلك، لا يختلف اثنان أن المفترض في أسبوع «الهوت كوتير» أن يقوم على بعض الدراما وشطحات الخيال، حتى يختلف عن أسبوع الأزياء الجاهزة أو تصاميم الـ «كروز» مثلا. فهو بالنسبة للمصممين المختبر الذي يجربون فيه أفكارهم ويستعرضون فيه خيالهم وقدراتهم الفنية، وبالنسبة للمرأة يعني قطعة فريدة جريئة في أفكارها، متميزة في تنفيذها بحيث يجب أن تكون أقرب إلى التحفة الفنية، منها إلى فستان، حتى تستعرضها وتستمتع بها قبل أن تضعها جانبا لكي ترثها إحدى بناتها أو حفيداتها. 
 
لهذا فإن بعض القطع تستغرق أكثر من 300 ساعة لتنفيذها وتقدر أسعارها بمئات الآلاف من الدولارات أحيانا. في السابق، وعندما كانت بيوت الأزياء ملكا لمصمميها، أي في عهد إيف سان لوران، كريستيان ديور، إلسا سكاباريلي وغيرهم، وقبل أن تدخل المجموعات الكبيرة على الخط لتتملكها وتفرض استراتيجيات تجارية جديدة، كان الهدف من «الهوت كوتير» تحقيق الربح لكن كان أيضا الوسيلة لإضفاء البريق على الدار وعلى اسم المصمم، الذي كان يعتبره نفسه في مصاف الفنانين. 
 
بعد ذلك أصبحت وسيلة لبيع الإكسسوارات ومستحضرات التجميل والأزياء الجاهزة، وليس بالضروري أن تحقق الربح لهذا كان يتبارى الكل على التفنن والتميز فيها، خصوصا أن بعض المصممين كانوا يرون أنفسهم كفنانين، مثل إلسا تشاباريللي، بينما كان ينظر آخرون إلى أنفسهم كمجددين ومبتكرين مثل كريستوبال بالنسياجا، مادلين فيونيه، أندريه كوريج، بيير كاردان. كل هؤلاء نجحوا في فرض صورة جديدة لـ «الهوت كوتير» أثبتت أنها كانت انعكاسا لعصرهم، وسابقة لأوانها بالنظر إلى أنها تتحدى زمنها ولا تزال تبدو عصرية إلى يومنا هذا.
 
لكن شتان بين الماضي والحاضر، حيث أصبح يتوقع من «الهوت كوتير» أن تحقق الأرباح لكي تسند نفسها عوض الاعتماد الكلي على مبيعات الأزياء الجاهزة والعطور والإكسسوارات، ما يحد من حرية المصممين الشباب، الذين توظفهم هذه المجموعات، ممن يجدون أنفسهم تحت ضغط كبير لإنتاج أكبر عدد من التشكيلات وكبح جماح خيالهم تقيدا بالنص المكتوب لهم. لحسن الحظ أن هذا لم يلغ قدرات بعضهم الفنية، ممن روضوها بشكل يراعي الجانب التجاري، وليس أدل على هذا من كارل لاغرفيلد لدار شانيل، وراف سيمونز لدار «ديور». 
 
فهذا الأخير، مثلا، تخلص من الكثير من الدراما التي كانت تصاحب عروض الدار في هذا الموسم، وتجعل الكل يحلم ويخرج منتشيا، ليقدم طبقا عصريا لذيذا.
 
مع توجه راف سيمونز لشريحة جديدة من زبونات «الهوت كوتير» أغلبهن في عز الشباب، ويأتين من أسواق جديدة متعطشة للفريد من نوعه أيا كان ثمنه، نجح في تحقيق المعادلة بين الفني والتجاري.
 
فالتصاميم التي يقدمها في موسم «الهوت كوتير» أقرب إلى البساطة منها إلى الدراما المبهرة. في الجهة الثانية، هناك بيوت أزياء أخرى لا تريد أن تتخلى عن مفهوم «الهوت كوتير» القديم، وتكتفي بعصرنته بالألوان والحرفية، لهذا لا تزال تتحفنا وتجعلنا نحلم ونبتسم لا إراديا، مثل «راف أند روسو».
 
فهذه الدار الشابة نجحت في أن تجمع أناقة التصاميم بالحرفية العالية التي يتطلبها هذا الخط، بشكل يشد الأنفاس ولا يخفى على العين. 
 
ما نجحت فيه أنها تذكرنا بأن أول عنصر في «الهوت كوتير» إضافة إلى الحلم أن التصاميم يجب أن تختلف عن تصاميم الأزياء الجاهزة، وبأن تتمتع بشخصية قوية مع بعض الدراما، وإلا فما الفائدة منها؟.
 
بعبارة أخرى، فإن دار «رالف أند روسو» وغيرها من البيوت، التي نجحت في تطويع أدوال «الهوت كوتير» وجعلها ذات صلة بالواقع الحالي، حولت النظري إلى عملي يناسب الواقع.
 
في المقابل، اختارت الكثير من عروض الأزياء هذا الموسم الجمال الهادئ، ولسان حالها يقول بأن الترف يمكن أن يكون بسيطا وغير متكلف، وهو توجه مقبول ومرحب به، لكن ليس عندما يكون على حساب اكتشاف المجهول والجرأة.
 
والمقصود هنا ليست الجرأة الحسية، فهذه كانت حاضرة في بعض العروض وعلى رأسها عرض فرساتشي، بل الجرأة في البحث عن أفكار جديدة، أو على الأقل، ترجمتها بأسلوب مختلف وتفاصيل مبتكرة. ربما يكون عرضي جون بول غوتييه وفكتور أند رولف الاستثناء.
 
السبب الثاني لهذا الرقي الهادئ أن الأزمة الاقتصادية لم تنته تماما، ورغم أن عدد زبونات هذا القطاع ارتفع بينما انخفضت أعمارهن، إلا أن عددهن تقلص في المواسم الماضية بشكل ملموس. فتباطؤ نمو الاقتصاد الصيني ونكسة الاقتصاد الياباني في عام 2014. وتراجع الاقتصاد الروسي، فضلا عن الأوضاع السياسية المتوترة في الكثير من مناطق الشرق الأوسط، كان لها تأثير على رغبة المصممين في تبني هذا الأسلوب الذي يجعل القطعة معقولة يمكن استعمالها في عدة مناسبات، بما فيها مناسبات النهار، كما هو الحال بالنسبة لـ«ديور» و«شانيل» وجيامباتيستا فالي وغيرهم.
 
جيامباتيستا فالي .. تحية لكوكو شانيل وجانيس تشابلن
جيامباتيستا فالي مصمم يتمتع بمطلق الحرية، فهو يمتلك داره، كما يعرف زبوناته، لهذا له القدرة على تقديم تصاميم درامية، تغوص في المجهول أحيانا ليخرج منها لآلئ ثمينة.
 
في العمق، لم يقدم جديدا بالمعنى الثوري، إذ ركز على إعادة اكتشاف نفس الأفكار، حركها وقلبها من كل الجوانب، ليبرز أو ليمنحنا تفاصيل جديدة، بدليل ميله إلى فن الباروك، الذي يحضر دائما، أحيانا بأسلوب هندسي محسوب، وأحيانا بشكل رومانسي عصري.
 
قال المصمم إن الفكرة التي انطلق منها هي عبارة عن جدل خيالي بين كوكو شانيل وجانيس تشابلن، مسلطا الضوء على الكثير من القواسم المشتركة بينهما.
 
فبالإضافة إلى أنهما عاشتا عدة تراجيديات في حياتهما الخاصة، فهما أيضا متحررتان لا تقبلان بالقيود الاجتماعية وتفضلان أسلوبا خاصا بهما تبنتا فيه أزياء رجالية بشكل أو بآخر.
 
كوكو استلهمت تصاميم مثل جاكيت التويد من خزانة الرجل، وجانيس تبنت البنطلون وكانت ترتديه مع فساتين كوكتيل. وهذا تحديدا ما ظهر في الكثير من الإطلالات التي استمتعنا بها في عرضه لربيع وصيف 2015 في الأسبوع الماضي.
 
فقد ظهرت العارضات ببنطلونات تتسع من أسفل فوق تنورات شفافة من التول أو الحرير، إما تحت جاكيتات أو فساتين ومعاطف تصل إلى الساق، كما ظهرن بجاكيتات مفصلة مع تنورات مستديرة وطويلة، تارة بالأبيض والأسود وتارة بألوان هادئة جاء بعضها مطرزا بالورود، لتعزز ذلك الإحساس بالرومانسية، الذي ظهر أيضا من خلال الديكور والسجاد المطرز بالورود.
 
رالف أند روسو .. تتألق برحيق الزهور وعبق الماضي
الورود كانت أيضا موضوعا قويا في عرض «رالف أند روسو» لكن بلمسة ساحرة تعكس قدرة الدار، التي دخلت برنامج الموضة الفرنسية منذ فترة قصيرة، على اللعب مع الكبار والتغلب على بعضهم، بدراسة مكامن قوتهم والاستفادة منها، كما الاستفادة من قدرات الأنامل الناعمة التي تدربت في ورشات باريسية قبل أن تلتحق بالعمل معها. 
 
كل هذا انعكس على تشكيلتها لربيع وصيف 2015. الحافلة بالورود والأزهار، التي تفتحت أحيانا على شكل تنورة بطيات أوريغامي، أو على شكل باقات أو بتلات مزروعة على جوانب كثيرة من فستان طويل بالأسود - أو بألوان هادئة تتراقص على درجات الأخضر أو الأزرق أو الوردي أو الأبيض. 
 
عندما طُلب من الدار المشاركة في أسبوع باريس للهوت كوتير أول مرة، لتكون أول دار بريطانية تشارك فيه منذ نحو قرن تقريبا، وعدت مصممتها الفنية، تمارا رالف، بأن تعيد الحلم للهوت كوتير، وتعيد لنا أناقة الخمسينات بلغة عصرية، وأوفت بوعدها، لأن عرضها الأخير كان حلم ليلة صيف ترقص فيها أميرات متوجات وغير متوجات على حد سواء في حديقة غناء.
 
الجميل أن هذه العودة إلى الخمسينات لم تترجم بأسلوب ريترو، بل العكس كانت تعبق بالعصرية، سواء في فستان كوكتيل ينتفخ عند الخصر، وبدل من أن يزيد من حجمه أو عرضه، يبرزه أنثويا ونحيفا، أو في فستان ينثني عند التنورة من الخلف ويرفع إلى الأكتاف ليأخذ شكلا مبتكرا، مع مزيد من «كاب» وذيل. لكن المهم فيه أنه مطرز ببتلات ورود ثلاثية الأبعاد، تنسيك كل شيء عدا جماله وتفرده. 
 
تخرج من العرض وأنت تتذكر الكبار، وكيف أن الثنائي تمارا رالف ومايكل روسو، مؤسسي الدار، يقدران الجمال وأيام زمان، وكيف أنهما مثل نحلتين تمتصان رحيق أجمل الورود وتقومان بصياغتها بحرفية عالية لتكون النتيجة تصاميم ولا أشهى من العسل.
 
جون بول دوتييه و61 طريقة للزواج
عرض جون بول غوتييه كان عرسا، بالمعنى الحرفي والمجازي على حد سواء. فقد افتتح عرضه بفستان زفاف وعلى خلفية أغنية بيلي آيدول «زواج أبيض» تلته نحو 9 تصاميم يمكن أن تختار منها عروس هذا الصيف ما يناسبها، وكأنه يمهد بدخول مجال فساتين الأعراس بعد أن هجر مجال الأزياء الجاهزة في الموسم الماضي بعد 40 عاما. 
 
العنوان الذي أطلقه المصمم على هذه التشكيلة هو «61 طريقة للإجابة بنعم» والمقصود هنا نعم على طلب الزواج، وبالفعل كان هناك 61 تصميما معظمها تجنح إلى الفانتازيا في الظاهر، إلا أنها لم تحلق بعيدا عن الواقع في العمق، في مزيج مدهش بين الجرأة والفنية. وهو ما لا يترك أدنى شك بأن شقي الموضة الفرنسية يعيش فترة سعيدة من حياته الفنية، بعد أن تحرر من ضغوط الأزياء الجاهزة وكرس نفسه وجهوده لـ «الهوت كوتير». 
 
كان هناك إحساس في الجو يعبق بالديناميكية والفرح وكأننا في عرس حقيقي، يلمس وترا حساسا بداخل كل الحاضرات الشابات لأن كل واحدة منهن ستجد ما يعجبها في الباقة المتنوعة. بعضها جاء على شكل تايورات مفصلة مع تفاصيل مبتكرة، تتحول فيها ياقات الجزء الأمامي إلى الخلف لتزين الظهر، وبعضها على شكل فساتين مستلهمة من القفطان أو «السلهام» المغربي، وهو عبارة عن «كاب» بالأبيض طويل، وبعضها على شكل بنطلونات جينز أو تايور أسود مستلهم من البدلة الرجالية من الأمام يتحول إلى فستان من الخلف. 
 
أرسل المصمم أيضا العارضة ليندسي ويكسون ورأسها مغطى بقبعة مثل تلك التي يلبسها حراس النحل كبديل للطرحة التقليدية. رغم غرابته انتزع التصفيقات ورسم الابتسامات على الوجوه وهذا ما كان يهدف إليه غوتييه: تقديم عرض غير عادي، يكون عرسا يسلط فيه الضوء على الجانب المبتكر والجريء في شخصية كل عروس، والأهم من كل هذا، أن ينشر شعورا بالسعادة في الأجواء، وهو ما تحقق له.