«أسبوع لندن للموضة» .. فن اللعب على مكان القوة

إيحاءات قوية من الماضي وتطلع جامح نحو المستقبل
إيحاءات قوية من الماضي وتطلع جامح نحو المستقبل

لا تتوقف منظمة «أسبوع الموضة» بلندن عن تذكيرنا، وفي كل موسم، بأن الموضة قطاع صناعي حيوي لا يجب الاستهانة به أو التعامل معه بشكل سطحي.
 
فهو يوظف ما لا يقل عن 800 ألف شخص، ويدر على الاقتصاد البريطاني أكثر من 26 مليار جنيه إسترليني في السنة حسب دراسة نشرت منذ 3 سنوات تقريبا.
 
هذه الأهمية باتت تعرفها كل عواصم الموضة العالمية، بدليل أنه خلال زيارة عمدة لندن، بوريس جونسون، إلى نيويورك أخيرا، شارك نظيره عمدة نيويورك، بيل دي بلاسيو، الاحتفال بانطلاق أسبوع نيويورك لخريف 2015 وشتاء 2016.
 
فقد يكونان من السياسيين القلائل اللذين يدركون أهمية الموضة كقطاع صناعي يدر المليارات على الاقتصاد الوطني، وبأن العهد الذي كانت تؤخذ فيه على أنها مجرد فعالية كبيرة تضفي البريق على أي عاصمة، وتستقطب النجوم والتغطيات الإعلامية، ولى من دون رجعة. 
 
فالأرقام تؤكد بأنها قطاع يجب التعامل معه بجدية وذكاء، وبرهن عليه ما أعلنه عمدة نيويورك من أنه سيضخ 15 مليون دولار أميركي على هذا القطاع، على شكل منح، ودورات تدريبية وتطوير التكنولوجيا، مشيرا إلى أن هذه الصناعة توظف 180 ألف شخص في الولايات المتحدة، وتشكل 11 مليار دولار أميركي من الأجور، وتولد مليارين من الإيرادات الضريبية وحدها، مما يجعل الاستثمار فيها مُجديا وضروريا في الوقت ذاته.
 
من جهته، وافق بوريس جونسون نظيره الأميركي في الرأي، خصوصا أنه عاين بنفسه نتائج مماثلة في بريطانيا.
 
لهذا لا يغرنك حال لندن في الأيام الأخيرة، ولا تستغرب منظر فتيات بشعر منكوش وملون بالوردي أو بالبنفسجي، وأزياء سريالية. فالهدف من هذا الاستعراض، بينما يبقى الجوهر تجاريا محضا يستهدف أذواقنا وجيوبنا في آن واحد. الجميل في لندن، أن كل شيء جائز ومقبول ما دامت الفكرة هي التعبير عن الذات وعدم التسبب بالأذى للآخر. 
 
ولأن الموضة كانت ولا تزال جزءا من اللغة التي يستعملها الإنجليز في التعبير عن ثقافتهم، فإن عاصمتهم تبقى حاضنة الصراعات والتقليعات في الظاهر، وكثير من اتجاهات الموضة التي تؤثر على أذواقنا وأسلوبنا، بشكل أو بآخر، في الجوهر. 
 
فحتى في الخيمة المنصوبة بساحة «سومرست هاوس» قد تصدمك بعض العروض التي تعطي الانطباع بأن المسؤولين عنها يعيشون في عالم خاص بهم، لكن عندما تخرج من العرض، وتتمعن في الصور ثم تفكر، تكتشف أن العملية لا تتعدى استعراض خيال خصب، يتجسد فيما بعد في أزياء أنيقة وبسيطة عندما تطرح في المحلات. 
 
فهذا ما تتقنه لندن أخيرا، وتفخر به أيضا، لا سيما وأنه يفتح الأبواب لمصمميها بدخول بيوت عالمية، يغيرون مسارها ويتحكمون في زمامها، وليس أدل على هذا من ستيوارت فيفرز في دار «كوتش» الأميركية، وجي دبيلو أندرسون في دار «لويفي» الإسبانية، وفيبي فيلو في دار «سيلين» الفرنسية وهلم جرا.
 
عودة إلى عروض لندن لخريف وشتاء 2015، التي انتهت، مساء أول من أمس، فإنه لا بد من القول بأن عالم الموضة عاش 5 أيام من الإبداع والأناقة والرحلات التي أخذتنا إلى حقب تاريخية بعيدة وأخرى عاشتها الجدات والأمهات، وما زلن يتذكرنها بكثير من الحنين، خصوصا حقب السبعينات والثمانينات والتسعينات.
 
80 مصمما، قدموا اقتراحاتهم، إما على منصات العروض أو في المعارض الجانبية التي تحتضنها «سومرست هاوس»، وتبين كيف أن الأسبوع اللندني الذي بلغ الـ31 هذا العام، يعيش عصره الذهبي. الفضل يعود إلى مصمميه المبدعين أولا، وإلى رئيسته التنفيذية ناتالي ماسيني، مؤسسة موقع «نيت أبورتيه»، التي تريده أن لا يتوقف عن النمو والتطور، وتُجند له كل الإمكانات اللوجيستية وكل من له القدرة على المساعدة، من رؤساء تنفيذيين لبيوت أزياء أو شركات عالمية أو رجال أعمال أو مصممين مخضرمين، لتقديم الدعم المعنوي والمادي للشباب.
 
من هؤلاء، نذكر جيمس ماك آرثر، الرئيس التنفيذي لماركة «آنيا هيندمارش» المعروفة بحقائب اليد الجلدية، الذي يرأس منذ عامين، القسم التجاري في منظمة الموضة البريطانية، وتتمثل مهمته في المساعدة على بناء وتقوية الماركات البريطانية ودراسة طرق اختراقها لأسواق عالمية جديدة. فما يُحسب للندن دائما أنها تعرف مكامن ضعفها وقوتها، وتعمل عليها.
 
واحد من مكامن قوتها هو معاهدها التي تُفرخ المواهب والمبدعين من أمثال جون جاليانو، والراحل ألكسندر ماكوين، وستيلا ماكارتني، وغيرهم. 
 
لهذا لم يكن غريبا أن تقيم قبيل انطلاق الأسبوع حفل تأبين للبروفسور، لويز ويلسون، من معهد سانترال سانت مارتن، التي درست معظم المصممين وأثرت على أسلوبهم ومسيرتهم، وتوفيت في العام الماضي بعد صراع مع المرض.
 
الكل يشهد أن لويز ويلسون، ليست بروفسورة عادية، بل يعود لها فضل كبير في تشكيل قدرات كثير من المصممين البريطانيين الشباب، وتشجيعهم على إطلاق العنان لخيالهم من دون خوف أو قيود.
 
كانت كلمتها مثل السيف، لهذا احترمها كل صناع الموضة وقدروا آراءها. 
 
خارج الكاتدرائية سانت بول، حيث أقيم حفل التأبين، امتطت عارضة، تلبس أزياء من دار «ألكسندر ماكوين»، ظهر حصان، في إشارة مهمة إلى أن الراحل ماكوين كان واحدا من طلبتها، وأيضا لأنها كانت تحب الفروسية. 
 
حضر حفل التأبين كثير من الشخصيات مثل المغني كيني ويست، وفيكتوريا بيكام، ودونا كاران، وألبير إلبيز، فضلا عن معظم المصممين الذين تخرجوا على يدها وفناني الماكياج ومهندسي الديكور، وهلم جرا.
 
هذه الباقة المتنوعة من صناع الموضة، وتصميم العروض، من دون أن ننسى امتطاء العارضة حصانا في أزياء درامية وصورة مسرحية، لخصت إلى حد ما شخصية قطاع الموضة البريطانية، التي تجمع المسرحي الدرامي بقوة الإبداع والابتكار. 
 
فلندن، مهما قيل عن مكامن ضعفها، لا تزال حاضنة المواهب والشباب، تعتمد عليهم في منافستها مع بقية العواصم العالمية. لكنها باتت تعرف أيضا أن الابتكار عندما يزيد عند حده ينقلب إلى ضده، لذلك كان لا بد من ترويض جنوح مصمميها وفورة شبابهم، بتعليمهم فنون التجارة وأهمية التسويق.
 
البعض انصاع للتعليمات والبعض الآخر لا يزال يقاوم ويرفض التقيد بالنصوص المكتوبة له. 
 
فعلى العكس من عروض نيويورك، أو ميلانو مثلا، التي تخاطب تصاميمها معظم الأذواق، إن لم نقل كلها، فإن بعض العروض البريطانية، تصر أن تحافظ على شخصيتها المتمردة على المتعارف عليه وإحداث «خضات» بصرية، وهو ما يعتبره البعض سيفا ذا حدين، لأنه يميزها من جهة، لكنه قد يصرف شرائح أخرى عنها من جهة ثانية، وهذا ما تعمل ناتالي ماسيني وكارولاين راش، الرئيسة التنفيذية للأسبوع على معالجته.