جينات الإنسان تعزز الصلات العائلية وتوارث بين الأجيال

المسامحة والغفران توجد في جيناتنا.. هذا ما تقول به الدراسات العلمية الجديدة. ويقول مايكل ماكالو الباحث في علم النفس في جامعة ميامي الاميركية، ان المخلوقات العليا من الانسان والقرود، التي تتسم بروح التسامح والغفران، تحافظ على متانة صلاتها العائلية وعلاقاتها الاجتماعية التي تسمح بدورها في درء الاعداء، وتأمين الحصول على الغذاء، كما تسمح باستمرار مسيرة التناسل، الأمر الذي ينقل هذه السمات النبيلة للغفران والتسامح الى الأجيال المقبلة.


ويزمع الباحث وضع كتاب في هذا المجال. ونقلت عنه وكالة «اسوشييتد برس» ان كل المخلوقات التي تتعامل مع الحياة عبر التعاون مع بعضها البعض، تتحلى بالضرورة بسمات الغفران، وإلا فان حساباتها سوف تصاب بالارتباك». واضاف انه يعتقد ان الناس مجبولون على الغفران، «الا انهم يفعلون هذا افضل، عندما يجري تعليمهم على كيفية المسامحة والغفران».

وقد ساعدت هذه الدفقة البشرية من المشاعر، المجتمعات على وضع نظم جيدة للعدالة. وفيما لا تقدم نظم المحاكم والسجون الحالية سوى عمليات العقاب والجزاء للخطايا المقترفة، فان الأفراد يجدون سهولة اكبر اثناء منح المسيئين غفرانهم.

وكانت عمليات سابقة اجريت لمسح الدماغ وتصوير مواقع نشاطه عند الغفران، قد اظهرت ان هذا التصرف، الذي يعتبر من اعلى التصرفات البشرية المتسامية، ليس مجردا من المصالح. اذ اظهرت الدراسات على متطوعين طلب منهم ان يغفروا الاساءة، حدوث نشاط في مناطق معينة من المخ، منها لحاء الفص الجبهي الأمامي الذي يرتبط بالمشاعر وبحلول المسائل وبالتفكير المركب، كما ظهر تدفق الدم في منطقة تهتم بالمكافأة.. أي ما معناه ان الانسان كان لا يغفر لوجه الله، بل انتظارا لمكافأة ربما معنوية! ويوجد اناس غفورون اكثر من غيرهم، كما وجد لندن إيفيس، الباحث في علوم الجينات، الذي يقول ان الغفران يمكن ان يكون موجودا في الجينات البشرية، اذ يتميز التوأمان المتطابقان بنفس سمات الغفران لديهما. كما وجد العلماء ان النساء اكثر ميلا للغفران من الرجال، كما تزداد سمات المسامحة لدى المتعلمين من خريجي الدراسات الجامعية، وبين صفوف المتزوجين.

ومن جهة أخرى، نجح العلماء الألمان من جامعة ايرلانغن (جنوب) في عزل جين معين يتحمل المسؤولية عن ولادة الأشخاص المصابين بالحالة القزمية المعروفة بـ«موبد2» MOPD II أوMicrocephalic Osteodysplastic Primordial Dwarfism. اتضح أيضا أن هذا الجين يلعب دورا مقررا في نمو وحجم الإنسان، ويمكن للتحكم فيه أن يقرر ما إذا كان الإنسان سيصبح قزما أم عملاقا.

وذكرت الباحثة أنيتا راوخ لوكالة الأنباء الألمانية أن فريقا من العلماء الدوليين نجح في عزل الجين المذكور بعد تجارب وفحوص شملت 25 شخصا مصابا بمرض «موبد2». وأكدت الباحثة، من جامعة ايرلانغن، أن خللا في هذا الجين يسبب حدوث حالة «موبد2»، لكنه ثبت أيضا أن هذه الجين يتحكم بنمو جسم الإنسان ككل. واتضح أيضا أن المعلومة الوراثية «بيريسنترين» والبروتين المرادف لها والموجود في جسم الإنسان، يمكن أن تقرر طول البشر.

ومعروف أن مادة «بيريسينترين» تلعب دورا رئيسيا في انقسام خلال جسم الإنسان. ويشارك في عملية انقسام الخلايا، وهي عملية طويلة ومعقدة، عدة مئات من الجينات، لكن «بيريسنترين» يلعب دور العامل المقرر لأن الخلل فيه يمكن أن يوقف كامل عملية الانقسام. كما تؤدي التشوهات التي تلحق بهذه المادة إلى اضطراب نمو الإنسان ونشوء حالات الطول الفارع أو القصر الشديد كما هي الحال في «موبد2».

والمهم في حالة تشوه «بيريسنترين» هو انه لا يؤدي إلى تخلف عقلي أو جعل المصابين أكثر عرضة من غيرهم للأمراض السرطانية، في حين أن التشوهات في الجينات الأخرى قد تؤدي إلى مثل هذه الحالات. وعبرت راوخ عن قناعتها بأن أي تغير طفيف على «بيرسنترين» يمكن أن يؤدي إلى عواقب هامة على صعيد نمو الجسم البشري. وسينشر فريق العلماء نتائج أبحاثة في مجلس «ساينس» المعروفة رغبة بدفع العلماء إلى المزيد من البحث في هذا المجال.

وأضافت راوخ أن الخلل في ميكانزم عمل «بيريسنترين» يخل بطبيعة انقسام الخلايا. إذ يقود الخلل هنا إلى نشوء خلايا جديدة لا تنطبق مواصفاتها تماما مع الخلية الأم، وهنا يحدث التشوه. والخمائر كمثل غير قادرة على التكاثر والعيش بدون «بيريسنترين»، لكن البشر ليسوا خمائر لحسن الحظ، لأن هناك جينات أخرى في الإنسان تهتم بعملية الانقسام والنمو. فالإنسان يستطيع العيش في حالة انعدام أو تشوه «بيريسنترين» لكن نموه سيتشوه فيصبح قزما أو ربما عملاقا.

ولا يسجل العالم أكثر من 100 حالة من المرض النادر المسمى «موبد2». وهي حالة تتسبب بتوقف نمو الإنسان البالغ عن طول يقل عن 100 سم، مع احتفاظه بدماغ لا يزيد حجمه عن حجم دماغ طفل عمره 3 أشهر. ويموت المعانون من الحالة وهم في سن مبكرة بسبب السكتات الدماغية الناجمة عن اختلاف حجم الدماغ عن حجم الأوعية الدموية التي تغذيه.

ويمكن لها الإنجاز أن يحل لغز «الهوبتز» الذي يعتقد البعض انه من نتاج الخيال العلمي. وكلنا يعرف الهوبِت الشهير«فرودو»، في ثلاثية «سيد الخواتم»، الذي يأخذ على عاتقه مهمة تحطيم خاتم الشر. وسبق للعلماء أن عثروا في أحدى الجزر الاندونيسية على هياكل عظمية لبشر بالغين ولكن من أحجام صغيرة. ويعتقد العلماء أن الهياكل العظمية تعود إلى جنس من البشر يسمى«هومو فلوريسينس» عاشوا قبل 18 ألف سنة. ومن المحتمل أن تعود هذه الهياكل إلى «هوبتز» وعاشوا قبل إنسان اليوم المسمى «هومو سابينز».

وترى عالمة الجينات راوخ أن حالة «الهوبتز» يمكن تفسيرها بسهولة على أساس مرض الخلل الوراثي المسمى «موبد2». وتقول أن أحجام العظام والجماجم التي وجدت في اندونيسا تتناسب تماما مع مواصفات أمراض الخلل الجيني في النمو. وشككت راوخ بتفسير العلماء للهياكل الصغيرة على أساس أنها تعود إلى جنس خاص من البشر، وقالت باحتمال أنها قد نجمت عن خلل وراثي في عملية انقسام الخلايا.

ولا يوفر الكشف عن الخلل في مادة «بيريسنترين» الفرصة لعلماء الجنس البشري لتفسير ظاهرة «الهوبتز» فحسب، وإنما أيضا للأطباء لتحسين فرص تشخيص الأمراض. إذ لا يستطيع كل طبيب تشخيص مرض «موبد2» بسهولة، لكن الكشف عن «بيريسنترين» في الدم سيقدم تشخيصا جاهزا لهم.