سويسرا خائفة على صناعتها من الساعات

تشتهر سويسرا بأشياء كثيرة، سياستها الحيادية ومنتجعاتها الشتوية والعلاجية واحتماء النخبة بها كلما ارادوا الهرب من عيون الفضول، إلى جانب بنوكها وكونها ملاذا لأصحاب الملايين، وإن كان السويسريون يتجنبون الخوض في هذا الموضوع. لكن ما يتفقون عليه هو اعتزازهم بصناعة الساعات، الذي قد يصل إلى حد التعصب.


ورغم اننا كلنا نعرف ان افخر وأجود الساعات تصنع هنا، إلا انه لا يمكن معرفة حجم قوة هذه الصناعة وتأثيرها على ثقافة البلد، إلا عند زيارة جنيف أو أحد المصانع المتخصصة بها خارج المدينة. الإحساس الذي يخرج به الزائر ان فخرهم بساعاتهم لا يضاهيه سوى خوفهم على مصيرها، وهو خوف ناتج عن عزوف الجيل الصاعد على التخصص فيها، بعدما كانت تورث من جد إلى ابن، كما انه المحرك لأصحاب الشركات، الذين يعملون جهدهم لإغراء العاملين والشباب بممارستها واكتساب ولائهم برواتب عالية، هذا إلى جانب تبني العديد من الشركات فكرة إقامة متاحف خاصة تؤرخ مسيرتها.

وفي الوقت الذي تحتاج فيه بعض هذه المتاحف إلى موعد مسبق للزيارة، فإن الأمر يختلف تماما بالنسبة لمتحف «باتيك فيليب» الذي فتح أبوابه للمتخصصين والعامة على حد سواء في عام 2001. فكرة المتحف ولدت عندما نقلت دار «باتيك فيليب» عملياتها إلى منطقة «بلان لي كات» بعد ان توسعت وأصبحت تحتاج إلى مساحة أكبر، ولأن المكان كان فارغا وواسعا بما فيه الكفاية، فكر فيليب ستورن، صاحب شركة باتيك فيليب ورئيسها، بأن يحوله إلى متحف يعرض فيه الساعات الرائعة التي جمعتها الدار على مدى 30 عاما من البحث والشراء من المزادات ومن أصحابها القدامى والتي يعود بعضها إلى أكثر من ثلاثة قرون.

وهكذا افتتح المتحف أبوابه في رقم 7 بشارع دي فيو غرونادييه، في عام 2001 ليصبح من أهم المعالم الثقافية واكبر المتاحف الساعاتية في المدينة، حيث لا يمكن ان تكتمل زيارة جنيف من دون زيارته، بل يمكن الذهاب إلى أبعد من هذا والقول بأنه قبل شراء ساعة تقدر بآلاف الدولارات، لا بأس من التعرف على تطور التصميمات وأصولها المتجذرة في التاريخ في هذا المتحف، لأخذ نظرة عن التصميمات والتفاصيل الأكثر كلاسيكية قبل التوجه لشراء ساعة العمر. يتألف المتحف من اربعة طوابق تم تصميمها واختيار ألوانها وطاولتها وإضاءتها، من قبل غيردا ستورن، زوجة فيليب ستورن. فقد اشرفت على كل صغيرة وكبيرة، لأنها كانت تريد ان يتكلم الديكور والأجواء لغة العصر حتى يعطي الإحساس بالراحة وكأن الزائر في أحضان بيته لا في متحف بارد.

يحتضن الطابق الأرضي بالإضافة إلى ركن الاستقبال، معرضا خاصا بالأدوات التي كان يستعملها الحرفيون وصناع الساعات والصاغة منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر إلى بداية القرن العشرين. صعودا إلى الطابق الأول يمكن معاينة مجموعة «باتيك فيليب» من 1839 إلى الآن، في الطابق الثاني يمكن معاينة إبداعات القرون الثلاث الأولى من فن الساعات من خلال المجموعات القديمة (أنتيك) من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر، وهي مجموعة رائعة تم تجميعها من اوروبا وجنيف، بينما يحتضن الطابق الثالث مكتبة وأرشيفا هائلا من الكتب والصور، التي لا يمكن للزائر لمسها أو التطلب لحمايتها من التلف.

هنا يلتقي التاريخ بالمستقبل بشكل عجيب ورائع، لكن لا أحد سيتبرع بتاريخ دقيق لصناعة أول ساعة عرفها الإنسان، وإن كان الاعتقاد ان أوروبا عرفت الساعة الميكانيكية أول مرة في القرن الثاني عشر وكانت بحجم ضخم، لم يتمكن من تصغيره ليصبح قابلا للاستعمال إلا بعد مرور اربعة قرون، كما تؤكد بعض الأشكال ما بين 1500 و1675.

ما يحسب لمؤسس المتحف، فيليب، أنه لم يرده ان يتتبع تاريخ ساعات «باتيك فيليب» وحدها، بقدر ما يكون احتفاء بصناع الساعات وقراءة موسعة في تاريخ الساعات السويسرية ككل من القرون الوسطى، أي منذ بدايتها، إلى اليوم، فضلا عن جزء مهم مخصص لتاريخ وتطور ساعات «باتيك فيليب». فالمتحف يضم ما لا يقل عن الفين ساعة فريدة من نوعها ونادرة شقت طريقها منذ اكثر من 500 سنة إليه، بعضها يعود إلى البلاط الفرنسي وبعضها الآخر مرصع باللؤلؤ، الحجر المفضل لدى اباطرة الصين، فيما يمكن التعرف، في القسم المخصص لتاريخ «باتيك فيليب»، بأن هذه الماركة كانت المفضلة لدى كل من الملكة فيكتوريا، ليو تولستوي، ماري كوري والبرت انشتاين وغيرهم.

اللافت فيه أيضا أنه يجمع التاريخ والفن والموضة في آن واحد. فإذا كان المتعارف عليه ان رحى الموضة تدور لتعود بعد كل عشر سنوات، فإنها هنا تؤكد انها تدور ولا تتغير حتى بعد مرور اكثر من اربعة قرون عليها، إذا كان فيها إبداع حقيقي. بل إن بعض القطع التاريخية مصممة بشكل يفوق جمال وروعة بعض التصميمات الحالية أو تشعرك بانها مناسبة لعصرنا، سواء من ناحية تصميمها أو ترصيعها الدقيق باللؤلؤ أو غيرها من الأحجار الكريمة، هذا عدا عن بعض التصميمات التي كانت تعلقها نساء البلاطات الأوروبية على أحزمتهن لتتدلى فوق التنورات المنفوخة وتزيدها جمالا وتميزا.

ورغم انه لا يوجد لها مثيل الآن، سوى في المتاحف، إلا انها تشعرك بالحنين إليها وتمني ان يعود إليها المصممين ليتحفونا بها، وربما التساؤل لماذا توقفوا عن صنعها بهذه الاشكال؟ لكننا نعود ونتذكر بأن اسلوب الحياة قد تغير جذريا، وأن امرأة القرن السابع عشر أو الثامن عشر في البلاطات الأوروبية ليست هي المرأة العصرية والعاملة في أغلب الأوقات. أما من ناحية فنيتها، فإن بعضها يبدو وكأنه لوحات صغيرة، وعند الاقتراب منها تتأكد انها فعلا لوحات فنية قام بها فنان مبدع وحرفي ماهر مثل تلك التي كان يطلبها اباطرة الصين، وإن كانت تعطي الإحساس بأنها عصرية للغاية.

الاختلاف يبقى فقط من ناحية التقنيات والتعقيدات التي تطورت بشكل كبير عما كانت عليه. وطبعا إلى جانب الموضة والفن هناك التاريخ المثير، ليس لصناعة الساعات نفسها فحسب، بل ايضا كيف انتقلت من فرنسا إلى جنيف، لتتأكد لنا مقولة ان مصائب قوم عند قوم فوائد. ففي القرن السادس عشر تعرض العديد من الفرنسيين الهوغونوتس (البروتستانت) إلى قمع واضطهاد من قبل الملك تشارلز التاسع، مما جعل العديد منهم يهرب إلى جنيف وكان من بينهم العديد من الفنانين والحرفيين المهرة الذين حملوا معهم خبراتهم ومهاراتهم في صنع الساعات والرسم على «الإيناميل»، وهو ما يبدو واضحا في القطع التي صنعت ما بين 1660 و1670.

في هذه الفترة يبدو واضحا ان البعض منهم كان يشكل الساعات حسب اعتقاداته ومعتقداته إذ هناك قطع تمثل جمجمة دلالة على ان هناك موتا بعد الحياة، وبينما كان البعض يلبسها حول عنقه كزينة، كان البعض الآخر يعلقها على خصره. كل دقيقة في المتحف تغني عن ساعة دراسة في كتب التاريخ، فكل تصميم وكل رسم وكل لون أو حجر كريم يعكس ثقافة حضارة بعيدة مثل الصين، التي تتميز الساعات التي صنعت خصيصا لها بترصيعات غنية باللؤلؤ.

ولأن الوصول إليها كان يستغرق عدة أشهر فإن صانع الساعات، كان يضطر إلى صنع نسختين متطابقتين بدقة عجيبة، في حال تعرضت واحدة إلى التلف أو الضياع بقيت الثانية، ولا تضيع الرحلة هباء. كل هذا التاريخ وجمالية ما هو معروض وغناه الحضاري يشعر الزائر بأن جنيف فعلا على حق في خوفها على صناعتها.

1) ساعة في غاية الجمال مع «بروش» من نفس النوع واللون من «باتيك فيليب أند كو»، صنعت في عام 1850

2) ساعة جيب من «باتيك فيليب أند كو» بحركة توربيون وحازت جائزة في عام 1930 ـ 1931، بيعت في عام 1931 لتيفاني أند كو بنيويورك

3) ساعة تنبعث منها دقات موسيقية من «بيغيه أند كابت» صنعت في 1810

4) ساعة مزخرفة بالتوت وتحمل اسم «التوت البري» من «باتيك فيليب أند كو»، صنعت في عام 1927

5) ساعة معصم بتعقيدات كثيرة من «باتيك فيليب أند كو» صنعت في 1952

6) ساعة جيب تتمتع بعدة مزايا وعدة تعقيدات. استغرق صنعها عامين من 1925 إلى 1927

7) ساعة رائعة تجسد نوع الساعات التي كانت تسوق للصين مرصعة باللؤلؤ وزخرفات دقيقة وتنبعث منها دقات موسيقية من «بيغيه أند ميلان»، صنعت في حوالي عام 1820

8) ساعة تاريخية لا يعرف مصدرها ويعتقد انها من جنوب ألمانيا يعود تاريخها إلى حوالي 1540