مناقشات علمية حول تأثير الضغط الجوي داخل الطائرة على صحة المسافرين

يبدو أن عدم الارتياح الذي يُعاني منه ركاب الطائرات بسبب تدني مقدار الضغط الجوي داخل المقصورة في الرحلات الجوية، هو اليوم أحد مجالات المنافسة بين شركات إنتاج الطائرات، لأن المحاولات الجارية من قبل منتجي الطائرات لتوفير أنواع قادرة على تهيئة ضغط جوي أفضل للركاب قد لا تجعل فقط من السفر بالطائرات أكثر راحة ومتعة أثناء السفر نفسه، بل ربما أكثر أماناً للعديد من المرضى خلال الرحلة وأكثر راحة للمسافرين العاديين في الأيام التالية بعد وصولهم.


ووفق ما نشر في عدد الأسبوع الأول من شهر يوليو الحالي من المجلة الطبية العالمية نيو أنغلند أوف ميدسن، قال الباحثون الطبيون في شركة بوينغ إن العمل على توفير قدر أكبر من الراحة للركاب، من خلال تعديل مقدار الضغط الجوي داخل مقصورة الركاب إلى أرقام تُقارب الضغط الجوي على ارتفاع 6000 قدم فوق سطح البحر، هو أهم من رفع كمية الأوكسجين في الهواء الذي يتنفسه الركاب أثناء الرحلة الجوية.

* تنافس صحي
ومع الإعلان أخيرا عن دخول أحدث طراز من طائرات بوينغ إلى مجال الخدمة في الرحلات الجوية التجارية، فإن أحد أهم مميزات بوينغ 787 هي قدرتها على توفير ضغط جوي للركاب يُقارب ما هو على ارتفاع 6000 قدم.

وهو ما يُعتبر عنصرا تنافسيا تسويقيا تُحاول به الشركة التغلب على تلك المميزات غير المسبوقة التي طرحتها شركة إيرباص في عام 2005 حين إعلانها عن أحدث طراز لديها، وهو إيرباص إيه 380 A380.

وهو الطراز الذي بهر الكثيرين بسبب توفيره طابقين شبه كاملين في مقصورة مقاعد الركاب، إلا أنه بهر الأطباء في ثلاثة جوانب أخرى مختلفة عن ذلك تماماً: الأول رحابة المقاعد والمسافات بين صفوفها، وذلك في محاولة لتقليل الإصابة بحالات جلطات الأوردة في الساقين لدى ركاب الرحلات الطويلة.

 والثاني قدرتها على تأمين ضغط جوي داخل كبينة الطائرة بما يُقارب ما هو على ارتفاع 5000 آلاف قدم فوق سطح البحر، والثالث خفض مستوى الضجيج الصوتي بنسبة 50% مقارنة بما هو في طائرة الجامبو بوينغ 747 العادية.

وهذان الأمران من المعتقد طبياً أن تكون لهما تأثيرات إيجابية على درجة راحة الركاب النفسية والجسدية أثناء الرحلة نفسها، وعلى تقليل احتمالات الإصابة باضطرابات النوم "جيت لاغ" بعد البلوغ إلى محطة الوصول.

وقالت جيان ياو، مديرة قسم الأداء البيئي في بوينغ، عن طائرة بوينغ 787 ، بأنها أولى طائراتنا المصنوع جسمها من مواد مدمجة ومتراكبة وليس من الألمنيوم.

وهي البنية التي مكنتنا من توفير ضغط جوي يُقارب الذي على ارتفاع 6000 قدم عن مستوى سطح البحر. إلا أنها قالت بأن العمل على توفير نفس الضغط الجوي في أنواع طائراتنا الأخرى، السابقة، غير ممكن، لأن جسم الطائرات تلك مصنوع من الألمونيوم.

وهناك أسباب عديدة وراء بدء الاهتمام بالجوانب المتعلقة بالصحة وسلامتها خلال الرحلات الجوية.

وكانت شركات صناعة الطائرات قد اتجهت وبقوة، منذ عقود، نحو الاهتمام بالجوانب التقنية في خضم حمى التنافس حول نيل الحصة الأكبر من سوق الطيران المدني، الذي يُقدر بمئات المليارات من الدولارات سنوياً.

لكن دون تنبهها إلى الحديث حول جوانب المشاكل الصحية وسلامة أرواح الركاب أثناء الكوارث المحتملة لحوادث الطيران أو حتى أثناء الرحلات التجارية العادية.

 وأصبح من العادي توقع عدم نجاة الركاب حال حصول كوارث الطيران، وكذلك من الطبيعي أن تواجه الهيئات الطبية صعوبات في إقناع تلك الشركات بأن ثمة أضراراً صحية قد تطال بعضاً من الركاب أثناء وبعد الرحلات الجوية، وأن من اليسير جداً على شركات النقل الجوي امتناعها عن السماح بسفر المرضى والحوامل نتيجة لعدم توفر وسائل أو ظروف تقديم الرعاية الصحية لهم أثناء الرحلات أو حمايتهم من مضاعفات التغيرات التي تحصل أثناء الإقلاع أو الهبوط.

* دراسة بوينغ الطبية
وحاول الباحثون من شركة بوينغ معرفة ما إذا كان ركاب الطائرات عُرضة للإصابة بدوار المرتفعات وما الذي يتسبب بإصابة بذلك، والأمر الآخر الإصابة بحالات عدم الارتياح.

وشملت الدراسة أكثر من 500 شخص من الأصحاء البالغين. وتم تعريضهم داخل مقصورة الركاب لأجواء وظروف مستويات مختلفة من الأوكسجين في الهواء تبعاً لمقدار الضغط الجوي عند عدة ارتفاعات، وتحديداً عند 650، 4000، 6000، 7000، و8000 قدم فوق سطح البحر، وهو ما سينتج عنه تناقص كمية الأوكسجين في الهواء تبعاً لنقص الضغط الجوي، وصولاً إلى أقصى حد من النقص، 4.4%، عند الضغط الجوي لارتفاع 8000 قدم. والغاية من المستويات المختلفة تلك هي معرفة ما الذي منها يبدأ بالتسبب بحالات دوار المرتفعات وحالات عدم الارتياح.

ولاحظ الباحثون من النتائج أن نسبة الإصابة بدوار المرتفعات كانت 7.4% لدى كل المشاركين. ولم تكن الإصابة لها علاقة بمستوى الضغط الجوي.

 وتحديداً لم ترتفع الإصابة بدوار المرتفعات عند التعرض للضغط الجوي الأقل، أي عند الضغط الجوي لارتفاعات 7000 و8000 قدم عن مستوى سطح البحر.

لكن إصابة الراكب بالشعور بعدم الراحة كانت أعلى كلما قل الضغط الجوي، أي ذلك الذي يُعادل الضغط الجوي فيما بين ارتفاع 7000 و8000 قدم. وعلى عكس ما قد يتوقعه البعض، فإن الصغار في السن كانوا أكثر معاناة في عدم الراحة مقارنة بالأكبر سناً. والنساء عموماً أكثر من الرجال.

وصرح الدكتور مايكل ميهم، كبير أطباء شركة بوينغ في سياتل والباحث الرئيس في الدراسة، بأن مستوى الارتفاع لا يُؤثر في حصول حالات دوار المرتفعات لأن البعض قد يُصاب بها عند وجودهم في ضغط جوي يُقارب ارتفاع 5000 قدم أو أعلى من ذلك.

لكن وصول مستوى الارتفاع إلى درجات عالية سبب في شعور المسافرين بعدم الراحة.

وأوضح بأنه لا فرق بين راحة المسافر عند مستوى سطح البحر وراحته عند ارتفاع 6000 قدم، لكن عدم الراحة تبدأ مع ارتفاعات تتراوح ما بين 6000 و8000 قدم.

ولذا فإن راحة المسافرين والملاحين ستكون أكبر في حال وجود ضغط جوي داخل مقصورة الركاب يُقارب 6000 قدم في الرحلات الطويلة.

وعلل الدكتور كلود ثيبيايلت، المدير الطبي لرابطة النقل الجوي الدولية "إياتا" في مونتريال، صعوبة توفير ضغط جوي داخل المقصورة يُعادل ذلك الذي عند مستوى سطح البحر، بأنه سيتطلب زيادة حمولة الطائرة بشكل كبير جداً.

وذلك بسبب أن المواد المتوفرة والمستخدمة اليوم في صناعة الطائرات لا تتحمل توفير مثل ذلك الضغط داخل مقصورة الركاب. وأن علينا تبعاً لذلك أيضاً زيادة كمية الحمولة من الوقود وتقليل عدد الركاب.

وأضاف بأن الضغط الجوي لارتفاع 8000 قدم هو أقصى حد مسموح، وهو الذي يتقبله فسيولوجياً جسم الإنسان الطبيعي حينما يكون خالياً من أية أمراض.

لكن هذا التقبل الفسيولوجي لا يعني أنه سيكون دون الشعور بشيء من عدم الارتياح.

* السفر بالطائرة ضرورة للمرضى
مع متابعة قصة ذاك الراكب الذي كان يحمل بكتيريا السل وسفره بين عدة بلدان حول العالم بكل تفاصيلها المثيرة حول سهولة العدوى بالأمراض داخل مقصورة الركاب، فإن ما يفرض ضرورة التنبه إلى معالجة تلك العقبات التقنية في إمكانية سفر المريض أو كبير السن هو ثلاثة أمور: الأول أن نسبة كبار السن في ازدياد مستمر في مناطق شتى من العالم، وهو ما سبق لملحق الصحة بالشرق الأوسط الحديث عنه عدة مرات، والثاني أن وسيلة السفر بالطائرة أصبحت هي وسيلة السفر الأولى عالمياً والوحيدة ربما للتنقل فيما بين قارات العالم، الذي أصبح كما يُردد الكثيرون قرية صغيرة.

 ومعلوم أن الأمراض المزمنة انتشرت في العالم بشكل لم يسبق له مثيل، خاصة أمراض القلب والشرايين بكل تداعياتها على القلب والرئتين والكلى، والسمنة بكل تأثيراتها حتى على الجهاز التنفسي، والتدخين العالمي الذي أحال العالم إلى مدخنة، والأمراض المُعدية المتشعبة الأنواع.

والثالث هو التوسع المنقطع النظير في جانب سوق النقل الطبي، أو الإخلاء الطبي، للمرضي بين أرجاء العالم عبر وسيلة النقل الجوي.

وهو توسع نتج عن ظهور المراكز الطبية المتخصصة في مناطق شتى من العالم تُعنى بمعالجة حالات مرضية صعبة ومتقدمة. ومعلوم بداهة أن المرضى لن يأتوا إليها حبواً أو مشياً على الأقدم من الدول المختلفة.

وبعيداً عن الخوض العقيم في جدوى الأوراق التي تشترط شركات الطيران ملء بياناتها وتوقيع الأطباء والمرضى عليها للسماح لهم بالسفر بالطائرة، والمقصود الرئيسي منها حماية الناقل من أي تبعات قانونية حال حصول أي مشاكل صحية، وبعيداً عن الخيال العلمي وتصورات الواقع الافتراضي لإمكانيات تقديم أي خدمات اسعافية أو طبية خلال الرحلات الجوية مع تكرار تلك المعزوفة من قبل أحد الملاحين في سؤال الركاب عما إذا كان بينهم طبيب للتعريف بنفسه لأحد الملاحين حين شكوى أحد الركاب من ألم في الصدر أو غير ذلك.

 وبعيداً عن غير ذلك من الجوانب فإن بدء شركات إنتاج الطائرات اعتبار عناصر صحية معينة ضمن قائمة مميزات طائراتها، يُعد خطوة أولى في مشوار طريق طويل.