هندسة الأنسجة تبشر بآفاق واعدة لتعويض الأعضاء المتضررة

البروفسور أنتوني عطا الله : نعمل حاليا لهندسة وإنماء 22 من الأعضاء والأنسجة
البروفسور أنتوني عطا الله : نعمل حاليا لهندسة وإنماء 22 من الأعضاء والأنسجة

لم يعد حلم توفير أعضاء وأنسجة بشرية لزراعتها عند الحاجة ضربا من الخيال، بل سيصبح حقيقة واقعة في المستقبل القريب.


ففي تطور علمي مثير يمثل قفزة طبية هائلة في مجالي طب التجديد وهندسة الأنسجة، تمكنت كل من شركة «أورغانوفو» Organovo في سان دياجو بولاية كاليفورنيا الأميركية المتخصصة في طب التجديد، وشركة «إنفيتك» Invetech في مدينة ميلبورن الأسترالية المتخصصة في هندسة الآليات، من تطوير وتصنيع أول طابعة حيوية ثلاثية الأبعاد 3 - D Bio - printer لإنتاج الأنسجة والأعضاء البشرية الصالحة لاستبدال الأعضاء التالفة والمصابة في أجسام المرضى.

ويقول الدكتور كيث ميرفي، المدير التنفيذي لشركة «أورغانوفو» إن هذه الطابعة تستخدم في البداية لأغراض البحث، حيث يمكنها إنتاج أنواع من الأنسجة البشرية البسيطة مثل الجلد والعضلات وبعض الشرايين والأوردة الدموية، وتوقع أن تتمكن الطابعة بعد نحو خمس سنوات من التجارب المختبرية، من إنتاج أوعية دموية متشعبة للاستخدام الفعلي في العمليات الجراحية المعقدة وعمليات القلب المفتوح.

حول هذا التطور العلمي المثير والآفاق الواعدة لمجالي طب التجديد وهندسة الأنسجة كان الحوار التالي عبر الهاتف من لندن مع البروفسور والطبيب الجراح الأميركي الشهير أنتوني عطا الله، مدير معهد طب التجديد في جامعة ويك فوريست في مدينة وينستون - سالم بولاية كارولينا الشمالية الأميركية.

ويعد البروفسور عطا الله أحد أبرز رواد العالم في مجالي طب التجديد وهندسة الأنسجة، فقد تمكن عام 2006 ولأول مرة من هندسة وإنماء مثانة كاملة النمو تم زراعتها بنجاح داخل المرضى، وفيما يلي نص الحوار:

- بداية، ما طبيعة العلاقة بين طب التجديد أو الإنشائي، وهندسة الأنسجة؟
هندسة الأنسجة (Tissue Engineering) تعتبر أحد فروع طب التجديد (Regenerative Medicine). 

وتعنى بهندسة وإنماء الأنسجة والأعضاء في المختبر بهدف استبدال أو إصلاح أو إعادة بناء أعضاء وأنسجة.

ومصطلح هندسة الأنسجة تم صياغته عام 1987 أثناء اجتماع المؤسسة الوطنية الأميركية للعلوم، وذلك عندما قام العالم واي سي فونغ، من جامعة سان دياجو في ولاية كاليفورنيا الأميركية بشرح لفكرة المصطلح، وفي الاجتماع التالي للمؤسسة عام 1988 تم تعريف المصطلح على أنه علم تطبيق مبادئ وأساليب الهندسة وعلوم الحياة للتوصل إلى فهم حقيقي للعلاقات القائمة بين التركيبات والتكوينات المختلفة بالنسبة إلى الأنسجة السليمة والمريضة والمصابة في الثدييات، والعمل على تطوير بدائل بيولوجية لاستبدال وتحسين وتصليح وظائف الأنسجة.

وجدير بالذكر أن طب التجديد يعتبر مجالا حديثا نسبيا، يتميز بتعدد تخصصاته، إذ يضم علوما مختلفة منها: الأحياء، والكيمياء، والطب، وعلوم الكومبيوتر والروبوتات، والهندسة، والوراثة، للوصول إلى حلول للكثير من المشكلات الطبية الصعبة التي تواجه الإنسان، حيث يتبنى أسلوبا مبتكرا في معالجة الإصابات والأمراض.

- سبق أن وصفتم عملية إنماء أعضاء وأنسجة جديدة بأنها تشبه طريقة خبز «كعكة ذات طبقات»، هل يمكن تقديم المزيد من التوضيح؟
- لقد استخدمت هذا التشبيه لأن عملية إنماء الأنسجة والأعضاء مثلها مثل طريقة خبز الكعك، فهي تبنى طبقة تلو الأخرى.

فبالنسبة إلى العضو تبدأ العملية بتصميم «سقالة، أي هيكل، مسامية ثلاثية الأبعاد»porous three - dimensional scaffold، بنفس شكل العضو المراد هندسته وإنماؤه، ثم وضع طبقة من الخلايا فوق السقالة وبعد ذلك توضع السقالة في جهاز يشبه إلى حد كبير الفرن العادي يسمى «الحضانة» incubator، فتتكاثر الخلايا وتستمر في التطور، وفي مدة تتراوح ما بين خمسة إلى ستة أسابيع يصبح العضو جاهزا لزراعته.

- استخدام تقنية طابعات نفث الحبر inkjet في مجال طب التجديد وهندسة الأنسجة ما زال في مراحله الأولية، هل لكم أن تحدثونا عن مزايا هذه التقنية؟
تتمثل مزايا استخدام هذه التقنية في أنها تسمح بهندسة وإنماء وإنتاج أعضاء وأنسجة وتركيبات بكميات كبيرة وبطريقة أسهل بكثير مقارنة بالطريقة اليدوية، كما أنها تغنينا عن الحاجة للسقالات، فضلا عن توفير قدر كبير من الجهد والوقت والمال.

- ماذا عن آلية عمل الطابعة الحيوية ثلاثية الأبعاد (3 - D Bio - printer) الجديدة؟
هذه الطابعة تستخدم حبرا خاصا جدا من الخلايا الحية والمغذيات الطبيعية والمواد اللازمة لتنمية الخلايا. يوجد بالطابعة رأسان للطباعة، توضع الخلايا البشرية على الرأس الأول في حين يستخدم الرأس الثاني للحصول على الدعامات (السقالات) لكي تنمو عليها الخلايا فتعطي شكلا للعضو المطلوب طباعته.

وتستخدم الطابعة خلايا جذعية مستخلصة من نخاع ودهون العظام البالغة كمدخلات أولية، يتم تحفيزها للتخصص والتميز إلى أنواع مختلفة من الخلايا، وذلك باستخدام عوامل محفزة مناسبة، وبعد هذا تشكل الخلايا إلى قطيرات يتراوح قطرها ما بين 100 إلى 500 ميكرون، وتحتوي كل قطيرة منها على ما بين 10 آلاف إلى 30 ألف خلية، وتتميز هذه القطيرات بقدرتها على استرجاع شكلها بصورة جيدة، وأيضا سهولة مرورها في النافثة المحبرية أثناء عملية الطباعة.

أما رأس الطابعة الثانية فيستخدم لضخ أو توصيل المواد اللازمة لبناء السقالات أو الدعامات، وهي عبارة عن «هيدروهلاميات» من السكر sugar - based hydrogel، تتميز بعدم تداخلها أو التصاقها بالخلايا، وعندما تتم عملية الطباعة يترك التركيب لمدة يوم أو يومين للسماح للقطيرات أن تندمج بعضها مع بعض.

ولضمان دقة أداء الطابعة الحيوية تمكنت شركة «إنفيتك» من تطوير «نظام معايرة ليزري» laser - based calibration، للتأكد من أن كلا من رأسي الطابعة يوصلان أو يضخان المواد بدقة شديدة، وكذلك تطوير نظام رسومات كمبيوتري يساعد في تصميم مقاطع عرضية لأجزاء الجسم المختلفة.

- هل ترى أن تقنية «الطابعات البيولوجية» التي تنفث خلايا حية بدلا من الحبر، ستصبح صناعة مربحة في المستقبل القريب، مما قد يتطلب وضع ضوابط علمية ودولية تعنى بالنواحي الأخلاقية المرتبطة بها؟
بالنسبة إلى هذه التكنولوجيا، أعتقد أنه ما زال أمامها وقت طويل، فنحن ما زلنا في مرحلة التجريب الإكلينيكي، فهدفنا الحقيقي أن نتمكن من توسيع دائرة هذه التقنية لاستخدامها في علاج أكبر عدد ممكن من المرضى. فهذه الطابعات الحيوية تم تصنيعها بالفعل، وهي تباع الآن لكن بغرض استخدامها لإجراء البحوث والتجارب.

- إلى أي مدى يمكن لطب التجديد وهندسة الأنسجة الاستفادة من علم الخلايا الجذعية؟
في طب التجديد يفضل استخدام خلايا المريض نفسه، وذلك لتفادي رفض الجسم للعضو الجديد، ولكن عندما يصبح هذا غير ممكن ومستحيلا تصبح الخلايا الجذعية البديل الأمثل، حيث توجد أسباب كثيرة تحول من دون استخدام خلايا المريض نفسه، منها على سبيل المثال إصابة العضو أو النسيج المراد هندسته أو إنماؤه بالسرطان.

ولقد تمكنا في مختبرنا من استخراج خلايا جذعية من السائل الأمينوسي المحيط بالجنين خلال تطوره. ونحن ندرس الآن كيفية فهم والاستفادة من الإمكانات المحتملة لهذه الخلايا ودورها في مجال طب التجديد.

- مع التطورات الحالية والمتسارعة في مجالي طب التجديد وتقنية النانو البيولوجية nanobiotechnology، هل ترى أن إنماء أنسجة وأعضاء داخل جسم الإنسان شيء يمكن تحقيقه في المستقبل القريب؟
هذا يعتبر من المجالات المهمة التي نبحثها وندرسها الآن. فالهدف هو إنماء سقالات «ذكية» smart، ومواد يمكن حقنها وزراعتها وخلايا جذعية وكذلك العوامل المحفزة inducing factors التي تساعد على تقوية وتنشيط عمليات الشفاء الطبيعية للجسم.

- ماذا عن تطبيقات تقنية النانو في مجال هندسة الأنسجة؟
تعتبر تقنية النانو Nanotechnology عنصرا في غاية الأهمية، إذ نستخدم قدرا كبيرا من تقنية الألياف النانوية nanofibers في هندسة الكثير من البنايات والتركيبات، كما نستخدمها مختبريا لمتابعة أداء الأعضاء.

- استراتيجيات التوصيل المحكم للأدوية controlled drug delivery، أحدثت تغييرا ملموسا في عالم الطب. من وجهة نظركم ما هي مميزات استخدام الجسيمات النانوية nanoparticles كأجهزة لتوصيل الأدوية؟
كما ذكرت سابقا، نحن نستخدم الجسيمات النانوية لتوصيل المواد المساعدة على النمو للأعضاء والأنسجة التي تم زراعتها حتى تبقى حية وقادرة على أداء وظيفتها، وكذلك نستخدم الجسيمات النانوية في تصوير ومتابعة الخلايا الحية، وأيضا الألياف النانوية نستخدمها في إنشاء السقالات.

- هل هناك بعض التحفظات والاحتياطات عند استخدامكم لهذه المواد النانوية، خاصة فيما يتعلق بسلامة الأفراد والبيئة؟
نحن ما زلنا في مرحلة التجريب، فمعظم تطبيقات تقنية النانو تجري في المختبر، ولكن في حالة استخدام المرضى فلا نستخدم سوى الألياف النانوية.

- بالنسبة إلى تقنية النانو في مجال الخلايا الجذعية، هل أجريتم تطبيقات في هذا المجال؟
في الحقيقة نستخدم تقنية النانو في إحداث ما يسمى بـ«تمايز الخلايا» cell differentiation، أي جعل الخلايا تتخصص وتتمايز، فمثلا نأخذ الخلايا الجذعية ونحثها أو بالأحرى نوجهها لتصبح خلية من خلايا القلب. 

فالبيئة هنا تلعب دورا مهما، واستخدام تقنية النانو لتوفير هذه البيئة فهذا شيء واعد.

- يبدي الكثير من المحللين والمعلقين قلقهم تجاه ما يطلق عليه مصطلح «الهوجة الذهبية» Gold Rush في سوق الأعضاء البشرية، ما تعليقكم على هذا؟ وهل هناك ضرورة ملحة لوضع قوانين دولية تنظم وتتحكم في هذه التجارة؟
حسنا، نحن ولحسن الحظ، لا نتعامل مع مثل هذا، فما نتعامل معه هي تلك التكنولوجيا التي نوظفها لهندسة وإنماء أنسجة وأعضاء المريض بهدف علاجه.

 فالتكنولوجيا هنا شخصية إلى حد كبير. نحن نأخذ عينة من نسيج عضو المريض المراد إصلاحه أو استبداله، ثم نقوم باستخدامه في هندسة وإنماء عضو جديد وسليم خارج الجسم في المختبر، وبعد ذلك نعيد زراعته للمريض نفسه.

- ما التحديات التي تواجهكم، وبخاصة بالنسبة إلى إنماء الأعضاء والأنسجة المطلوبة والمناسبة؟
لقد واجهتنا تحديات كثيرة ومتنوعة، منها كيفية تأمين توفير مصدر لمد العضو أو النسيج المراد هندسته وإنماؤه بالدم المناسب، وكذلك معرفة وتعلم كيفية إنماء أنواع معينة من الخلايا خارج الجسم، فمجرد التأكد أنه بإمكاننا إنماء الخلايا خارج الجسم كان بمثابة التحدي الأول لنا، وواجهنا تحديا آخر تمثل في كيفية نقل أو توصيل هذه الخلايا بكميات كبيرة بشكل يمكنها من استمرارية الحياة عند زراعتها، وأيضا كيفية التوصل للمواد المساندة التي تساعد في تحقيق هذا.

والتحدي الأكبر في نظري يكمن في كيفية جعل هذه الأعضاء والأنسجة تقوم بأداء وظيفتها بشكل طبيعي عند زراعتها في أجسام المرضى.

- هل واجهتم تحديات مرتبطة بالتمويل؟
خلال السنوات القليلة الماضية، ولحسن الحظ، فقد حظي مجال طب التجديد وهندسة الأنسجة بالاهتمام والتمويل المناسب.

- كم عدد الأعضاء التي قمتم وفريقكم البحثي بهندستها وإنمائها في مختبركم حتى الآن، والتي تخطت مرحلة التجريب المختبري إلى مرحلة الاستخدام الفعلي؟
لقد تم بالفعل منذ سنوات زراعة أنسجة وأعضاء مختلفة للكثير من المرضى وما زالت إلى الآن تعمل بكفاءة، منها المثانة والغضروف، ونعمل حاليا على هندسة وإنماء نحو 22 من الأعضاء والأنسجة المختلفة.

- من وجهة نظركم، ما الأعضاء الأكثر تعقيدا؟
في الحقيقة، إن الأعضاء الصلبة solid organs هي أكثر الأعضاء تعقيدا، فمن السهل جدا عمل البناءات العريضة الواسعة مثل الجلد، تليها من حيث مستوى الصعوبة التركيبات الأنبوبية tubular، مثل الأوعية الدموية والهوائية، ثم الأعضاء المجوفة hollow فهي أكثر صعوبة مثل المثانة والمعدة، وأخيرا تعتبر الأعضاء الصلبة هي أكثرها صعوبة على الإطلاق، نظرا لأنها معقدة للغاية مثل الكلية والقلب والكبد.

- هل تمكنتم من إنماء الأعضاء الصلبة؟
نعم، نحن نجري تجارب الآن على إنماء الكلية، ولقد نشرنا بالفعل دراسة حول هذا الموضوع، وقمنا بعمل نماذج مختبرية مصغرة من الكلية.

- ما أهم الدراسات أو المشاريع التي تقومون بها في الوقت الحاضر؟
هناك الكثير من المشاريع الواعدة والمرتبطة بطبيعة عملنا، منها تطبيق طب التجديد في مجال معالجة الجروح الناجمة عن الحروب والنزاعات، فنحن على سبيل المثال نقوم حاليا بهندسة وإنماء أذن بشرية، وأيضا نعمل جاهدين على تطوير تقنية لطباعة الخلايا الجلدية ونسجها على الحروق مباشرة.

- ما الذي تتطلع إلى تحقيقه في المستقبل القريب؟
إن هدفنا الرئيسي هو المساهمة الجادة في حل مشكلة النقص الشديد في كمية الأعضاء المتوافرة لزراعتها من المتبرعين مقارنة بالعدد الهائل من المرضى المسجلين منذ سنوات على قوائم الانتظار، إذ تشير الإحصاءات، وهذا أمر مذهل، إلى أن كل 30 ثانية تمر، تشهد موت مريض نتيجة أمراض يمكن علاجها عن طريق إنماء الأنسجة أو استبدالها.

- ما نصيحتكم لشباب الباحثين والعلماء في الوطن العربي الراغبين في دخول مجال طب التجديد؟
إن طب التجديد مجال شائق آخذ في النمو والازدهار ويبشر بتقديم الكثير من الإسهامات والإنجازات المتنوعة للطب عموما، ولهذا أشجع العلماء الشبان لممارسة مهنة العمل في هذا المجال.

- هل ترغبون في إقامة تعاون مشترك مع الكليات والمراكز الطبية في العالم العربي في المستقبل القريب؟
نعم، وبكل أمل نرغب في هذا، وسنكون سعداء جدا بهذا التعاون. في الحقيقة قمنا بتأسيس عدد من المراكز الدولية المشتركة ونتطلع بشغف إلى تأسيس مراكز في المنطقة العربية.

- وأخيرا.. اسم العائلة «عطا الله» يوحي بأنكم ربما تنحدرون من أصول عربية، هل هذا صحيح؟
لا أستطيع التأكيد على هذا بشكل مطلق، فأصولي من أميركا الجنوبية، فوالدتي ولدت في بيرو وأنا أيضا ولدت في بيرو، ربما قد يكون هناك جذور لبنانية، ولكن هذا غير مؤكد بالنسبة إلي.