الشوكولاته في شوارع باريس .. رحلة تستحق العناء

تعرض البوتيكات الفرنسية  الشوكولاته كما لو كانت أحجارا ماسية
تعرض البوتيكات الفرنسية الشوكولاته كما لو كانت أحجارا ماسية

تمكن الفرنسيون من السمو بالكثير من الأشياء لتصل إلى مراتب الفن الجميل، كما هي الحال في الموضة والغزَل وطبق «كبد الأوز» الذي يعرف بالفرنسية باسم (foie gras). ولم تكن الشوكولاته بعيدة عن هذا الاتجاه، حيث تعرض البوتيكات الشوكولاته كما لو كانت أحجارا ماسية، لذا فإن تجربة زيارة محل لبيع الشوكولاته في باريس تعتبر من بين التجارب السامية.


وبالطبع، تكمن المشكلة في القيام بأكبر قدر ممكن من الزيارات لمحلات الشوكولاته، مع إعطاء باقي أنحاء المدينة حظها. والحل الذي أقترحه، هو أن تخصص يوما كاملا لزيارة بوتيكات الشوكولاته، لكن أعطِ هذه الزيارات حقها. وعليه، ففي زيارتي الأخيرة إلى باريس، قررت تأجير دراجة في برنامج «فالي» لتأجير السيارات في المدينة لاستخدامها في زيارة محلات الشوكولاته التي لها سمعة كبيرة، والتي كثيرا ما يكتب عنها في الأدلة الخاصة بالمدينة وفي لوحات الرسائل الإلكترونية. وقد كان الأمر مبهجا، لكنه كان مرهقا كذلك.

لقد جعلت دراجات «فالي»، التي أخذت شهرتها في باريس قبل عام ونصف العام بعد أن دشنت المدينة هذا البرنامج، التجول داخل المدينة أكثر متعة. فقد انطلقت بالدراجة إلى جوار برج إيفل، ونهر السين، ومررت سريعا خلال شوارع غرامين دو باري الطويلة إلى جوار آخرين يركبون الدراجات أيضا: سكان باريس في ملابس الصيف وأصدقاء العمل، وتجد بالسلة المعلقة في مقدمة الدراجة الحقائب وساندويتشات من الخبز الفرنسي، وقد تجد البعض يضع كلبه الصغير.

ومن الناحية العملية، فإن هذه الدراجات لها ضرورة كبيرة، فبأي صورة أخرى يمكنني المرور في خمس مناطق بنفس السرعة؟، وفي نفس الوقت، فإنك تستمتع بيومك وكل ما فيه.

بدأت المتعة من وسط المدينة، من أقدم مكان على قائمتي «مايكل كلوزل» (201، شارع سانت هونور، 33-1-42-11-66، www.chocolatmichelcluizel-na.com)، الذي يصنع الشوكولاته منذ عام 1948. وبعد أن قطعت مسافة قصيرة من محطة «فالي» في تقاطع طرق دو ليكول وسانت هونور، مررت بجوار محلات كبيرة تعرض عباءات فخمة وأحذية «ماري جينز». ثم دلفت إلى محل كانت تنبثق فيه الشوكولاته الذائبة من نافورة وكان على الأرفف قطع شوكولاته تحتوي على كاكاو بنسبة 99 في المائة.

ويوجد لدى كلوزل مكان في أميركا، في مانهاتن، شربت فيه شراب الكاكاو الساخن المصنوع من خليط من خمس حبات كاكاو. وفي محله في مدينة باريس، الذي تديره ابنته كاثرين، تذوقت لأول مرة الـ«ماكاروليت» (1.55 يورو أو بدولارين تقريبا، بسعر 1.29 دولار مقابل اليورو). وتشبه الماكاروليت حلوى المعكرون، وهي حلوى تصنع من البيض والسكر واللوز، لكن باستخدام الشوكولاته، وتكون فيها ما يشبه الصدفة المصنوعة من الشوكولاته مملوءة باللوز والبندق، ويُطلق عليها برالين، وقد تم جرش حبوب اللوز والبندق بصورة خشنة، لتضفي على الشوكولاته مزيجا غنيا بالمكسرات.

وتعتبر هذه الشوكولاته صغيرة للغاية، إذ يمكن أكلها على قضمتين تسمع فيهما صوت طقطقة وطحن المكسرات، ثم يذوب المزيج بعد ذلك في فمك. إلا أنها ليست أكبر من قضمتين، وأنا أطمع في المزيد.

ومع دورة سريعة، قادتني الدراجة إلى أعتاب متجر جان بول هيفي (الكامن في 231، رو سانت هونوري 33-1-55-35-35-96; www.jphevin.com). ويضم المتجر مزيجا من المفروشات وطرق العرض الحديثة، وأرضيات من الإردواز، وحوائط مثبت عليها أرفف صغيرة وراءها إضاءة عرض خلفية، وعليها تُعرض علب مزدانة بالكوبالت تحتوي على البونبون، وستعتريك الرهبة من المكان، وسيبدو لك المكان مهولاً بعض الشيء، وإن لم يكن كذلك بالنسبة لأصحاب المتجر، إذ يقومون بسحر أعين المتفرجين للنظر بإعجاب نحو حلوى الماكرون ذات المانجو والكزبرة، وكعكات الأهرامات.

وبعد مناقشة كبيرة، فهل سيكون الأمر شرها على نحو سخيف أن يتم تناول «شوكو باشن» التي تتكون من كعكة بالكاكاو، وموسيه الشوكولاته، وفطيرة البرالين المنتفخة في وقت مبكر من اليوم؟، وفي النهاية حسمت المسألة بشراء باتشي بالكراميل، وثمنها 3.20 يورو. وتعتبر هذه الشوكولاته أكبر قليلاً من البونبون، وأصغر من قطعة شوكولاته هيرشي، وهي قطعة ناعمة من الكراميل المغطاة بالشوكولاته.

ووراء بالاس دولا كونكورد، انحرفت تجاه شارع غابرييل، وهو شارع متموج، يخترق السفارة الأميركية، ومتجر بيير كاردين للفنون الحديثة، وإسبيس، وذلك قبل المرور بالفعل على مقهى يقع في أحد الممرات الضيقة، إذ سيتعين عليك المرور متموجا حول شاحنتين واقفتين لتقديم الأغذية السريعة للزبائن. ولتفادي المرور بين حشود السياح الذين يأسرهم الإعجاب في شارع تشامب إليزيه، والسيارات التي تطلق نفيرها على نحو عشوائي حول الميدان المحيط لآرك دو تريومف، سلكت الشوارع السكنية الخلفية لشارع فيكتور هوغو.

وفي هذا الشارع، عثرت على أكثر متاجر الشوكولاته غرابة في القائمة التي لدي، وهو باتريك روغر (45 شارع فيكتور هوغو، 33-1-45-01-66-71; www.patrickroger.com)، ولا تنبع غرابة هذا المتجر من تماثيل الشوكولاته الموجودة فيه (التي نجد منها على سبيل المثال تمثالا لمزارع بالحجم الطبيعي)، بل تعرض أيضا الواجهة الزجاجية الأمامية أسرة للبطريق، وهي أيضا بالحجم الطبيعي، أو عبوات التعبئة زرقاء اللون والمشهور بها: كما أنه معروف أيضا بالبنبون ذي النكهات المميزة.

ويقول دافيد ليبوفيتز، خبير الشوكولاته الأميركي، ومؤلف كتاب «الكتاب العظيم عن الشوكولاته»، والمقيم في باريس: «أعتقد أن باتريك روغر مشهور ورائع، نظرا إلى أنه يضم النكهات الجديدة غير المعتادة»، وأضاف أن روغرز «لا يقدم النكهات الغريبة فقط ليبدو أنه مواكب للموضة الحديثة، كما يفعل البعض في باريس هذه الأيام».

وقمت بتجريب البعض منها للتأكد بنفسي، ونرى من الأنواع الموجودة: جاميكا، وهي غنية بنكهات القهوة، من حبوب القهوة العربية المطحونة، كما نجد جاكارباجوا، ويتم فيها مزج الليمون المركز مع النعناع الطازج، ونجد أيضا فانتازم، ويتم صنعها من دقيق الشوفان، ويبلغ ثمن كل واحدة من تلك الأنواع واحد يورو.

وخلال 90 دقيقة تذوقت أنواع الشوكولاته المحلاة بالقشدة، والمملحة، والحامضة منها، كما جبت نطاقا كبيرا من أرجاء المدينة. وجدت نفسي مبتهجة للغاية، وأنا أقود الدراجة أسفل أشجار الكستناء المرتفعة متجهة نحو قصر دو تروكاديرو في الدائرة 16. وكنت أخفف من سرعتي لدى انحداري من أعلى بعض هضاب رو بنيامين، وفرانكلين، وبوليفارد ديليسيرت، مارة على المقاهي والمباني الرومانسية الضخمة المشيدة من الأحجار الجيرية، وكانت ألوان تلك البنايات تتغير ما بين اللون البيج، والرمادي، اعتمادا على الإضاءة، شعرت حينها كما لو كنت في قرية غاليك الغريبة، وليس في العاصمة.

كان هذا حتى خرجت من النهر أمام أكبر معلم في فرنسا كلها، ألا وهو برج إيفل. في هذا المكان، كانت فلاشات الكاميرات الرقمية تومض، والباعة المتجولون ينادون على الهدايا التذكارية، وأفواج الأتوبيسات السياحية تدور في كل مكان.

وكان يبدو كما لو أن السائح الأجنبي قد هبط على الأثر التاريخي في وقته الحقيقي. ولم ألتقط أنفاسي حتى وصلت إلى الدائرة السابعة الراقية. وهناك وجدت ميشيل تشودان (149 شارع يونيفيرستي 33-1-47-53-74-40)، وهو معروف بأنه فنان ونحات شوكولاته موهوب (وقد زينت ألوانه المائية المتجر إلى جانب بيض فابريغي المصنوع من الشوكولاته، والتماثيل الأفريقية)، ولا يمكننا الخوض في كونه أحد أعظم صانعي الشوكولاته في العالم.

وبعد مرور 22 عاما على تحويله الكاكاو إلى بونبون ضخم، أصبح مسؤولاً عن التأثير وإلهام الكثير من الأجيال الجديدة من صناع الشوكولاته. ويتم تبجيل أعماله الفنية في صناعة الشوكولاته بصورة كبيرة، وهي على شكل مكعبات سكر من شوكولاته الغانشيه، ويمكنك أخذها بصورة بسيطة من العلبة بواسطة عود خلة أسنان، ثم تضعها في فمك، لتدع القليل منها يذوب على لسانك قبل أن تعض بأسنانك على الحشو الغني بالقشدة، وكريمة الشوكولاته.

وإلى جانب كونها طازجة ولذيذة، تعتبر أيضا مفرطة الحساسية في الأجواء الدافئة. وتم تصميم هذه الشوكولاته ليتم أكلها على الفور، فإذا ما فكرت في ادخار القليل منها فستذوب على الفور.

ومع العلم أن تجريب برنامج فالي لا يخلو من المشاكل، وذلك على أساس التعبير الباريسي الساخر الذي قاله لي أحد الأشخاص المثيرين للاشمئزاز بالمحطة إن 90% من دراجات باريس لا تعمل. ولا أريد في هذا المقام قول إن الدراجات المعيبة أمر مألوف هناك، لكنني تعلمت قائمة تضم أسئلة جوهرية يجب أن أسأل عنها: هل الإطارات ممتلئة بالهواء؟ وهل إطار الدراجة مستقيم؟ هل السلة الأمامية سليمة؟ هل تعمل التروس على النحو الأمثل؟ وهل سلسلة الدراجة مربوطة جيدًا؟، ومع فحص تلك الأشياء، يمكنك المضي بأمان، كما فعلت أنا بعد تذوقي آخر قطعة شوكولاته من العلبة المتوسطة التي تضم 6 قطع، وثمنها 3.40 يورو.

ولدى مروري على الحدائق الميدانية في مواجهة لي إنفاليد، مررت على طلاب كليات يقذفون بالأطباق الطائرة، كما كان هناك رجال كبار يعلبون لعبة البتانكي. وعلى يميني كانت هناك قبة لي إنفاليد المطلية باللون الذهبي، أما على يساري، كان هناك المزيد من لون الذهب الذي يعتلي جسر ألكسندر الثالث. لقد كانت هذه رحلة رومانسية بالفعل.

وأخيرا كانت الدائرة السادسة، وبدا أن بمقدوري الاندفاع إلى إم آند إم من أي اتجاه، للوصول إلى صانع الشوكولاته العالمي. وكان هناك جان تشارلز روتشو (16 شارع دو أساس 33-1-42-84-29-45; www.jcrochoux.fr)، وهناك يمكنك إيجاد تماثيل مبهرجة من الأقزام الخرافية مصنوعة من الشوكولاته وتعطي انطباعا خاطئا بأن مارك تروفلز هو الصانع الفعلي لتلك الأعمال الفنية الرائعة.

كريستيان كونستانت (37 شارع أساس 33-1-53-63-15-15)، الطاهي المشهور في ميشلان، والحاصل على جائزة صانع الشوكولاته، تميز ونال شهرته من الأصناف التي يتم إضافة التوابل والأعشاب إليها، مثل الزعفران، والأيلنغ. بيير ماركوليني (86 شارع سيين 33-1-4407-3907; www.marcolini.be)، البلجيكي الوحيد في تلك المجموعة، ويقدم 75% من أنواع الشوكولاته من سبع مناطق أميركية وأفريقية جنوبية. وكنت قد بدأت التحرك والانتقال السريع من مكان إلى آخر أملاً في إنهاء هذه الجولة. وعلمت وأنا داخل متجر بيير هيرمي الضئيل (72 شارع بونابارت 33-1-43-54-47-77; www.pierreherme.com) أنني أقوم بالصواب.

فبمجرد أن دلفت عبر الأبواب الأوتوماتيكية، كنت (معذرة على ذلك) مثل الطفل داخل متجر الحلوى، وكانت هناك صفوف من الكعك المزدان بالتوت، وحبوب القهوة، ورقائق الشوكولاته. وطلبت إحداها، ثم أخذت جوهرتي الثمينة إلى حديقة جانبية وفتحت العلبة لأجد كعكة تعلوها قبة مملوءة بموسيه الشوكولاته، والغانشيه، والكريمة المغطاة بالمكسرات. واستمتعت بهذه الوفرة الغنية من الكريمة المخفوقة، في كل قضمة من هذه الشوكولاته، والكمية القليلة من الملح الموضوعة لإكسابها طعما ونكهة. يا إلهي، هل أنا في الجنة؟ لا إنه فقط نشوة إمضاء يوم في مدينة النور، والشوكولاته.

قيادة الدراجة من أجل مكعبات الشوكولاته:
بعد تضاعف عدد الدراجات منذ بداية البرنامج بالصيف الماضي لتبلغ 20.600 دراجة، أصبح برنامج فالي باريس www.velib.paris.fr، مجانيا والأكبر من نوعه في فرنسا. وهناك حوالي 1.451 محطة بالمدينة، أو واحدة تقريبا في كل 900 قدم. ويوجد في كل محطة 20 دراجة. وتتسم الدراجات بالسهولة، وهي ذات 3 سرعات، ومقعد قابل للتعديل، وجرس، وسلة، ومصباح أمامي.

وبواسطة شرائك للدراجة ليوم واحد أو لأسبوع كامل من الأكشاك، يمكنك استقلال أي دراجة وتركها في المحطة القريبة منك. ويمكنك فتح قفل الدراجة عن طريق تمرير كود الدخول الشخصي الخاص بك في الكشك. ورغم أن هذا البرنامج يُطلق عليه برنامج الدراجات المجاني (إذ تعد كلمة فالي اختصارا لكلمة فيلو ليبر، أو الدراجة المجانية)، تبلغ تكلفة تصريح استخدام الدراجة لليوم يورو واحد. ولا توجد رسوم إضافية على نصف الساعة الأولى، فيما تكلف نصف الساعة الثانية يورو واحد، ونصف الساعة الثالثة 2 يورو.

ثم تكون التكلفة 4 يورو لكل نصف ساعة. وكلما قلّ زمن رحلاتك، قلّت التكلفة. لقد بلغت التكلفة الإجمالية لرحلتي التي دامت لخمس ساعات 12.60 يورو، أو حوالي 16.15 دولار، عندما كان اليورو يعادل 1.29 دولار.